جمع «منتدى دافوس» في عام 2024، كما جرت العادة في السنوات الماضية، رهطاً من «علية القوم» من عالمَي السياسة والأعمال (2800 شخص)، لمناقشة أحوال الكوكب، وأبرز التحديات التي يواجهها على المستويات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والبيئية. حرص كلاوس شواب، مؤسّس «المنتدى»، في كلمته الافتتاحية، على استعراض طويل لأسماء الحاضرين، للتأكيد على أهمية القمة المنعقدة هذه السنة، أولاً، وفقاً لتعبيره، «لإعادة بناء الثقة. نحن أمام عالم منقسم وتناقضات اجتماعية محتدمة، ما يعمّم اللايقين والتشاؤم». تتمحور أعمال القمة حسب المنظّمين حول 4 موضوعات مركزية: ضمان الأمن والتعاون في عالم منقسم، وإطلاق النمو وإيجاد فرص عمل لحقبة جديدة، والذكاء الاصطناعي كقوة دفع للاقتصاد والمجتمع، واستراتيجية طويلة الأمد للمناخ والطبيعة والطاقة.في الواقع، فإن الفرضيات الرئيسيّة والمفاهيم التأسيسية التي يلجأ إليها منظّمو القمة عند صياغة سرديّاتهم، تنتمي بمجملها إلى الخطاب السائد في مرحلة «العولمة السعيدة»، والذي راج في بداية تسعينيات القرن الماضي، وسرعان ما تعرّضت صدقيته لامتحانات عسيرة نتيجة الأزمات المتتالية التي عصفت بالعالم، بدءاً من الأزمة المالية والاقتصادية الآسيوية في 1997 - 1998، مروراً بحروب الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وبالأزمة المالية والاقتصادية فيها عام 2008، وبتصاعد حدة «المنافسة الاستراتيجية» بينها وبين روسيا والصين، وصولاً إلى الحرب الغربية بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، وحرب الإبادة التي تُشن على الشعب الفلسطيني في غزة من قبل الكيان الصهيوني بشراكة أميركية كاملة. لن ينجح الخطاب الأيديولوجي المرصّع بمصطلحات مكرورة كـ«التعاون» و«المصالح المشتركة» و«المصير الإنساني الواحد»، في حجب مسؤولية مشروع تأبيد الهيمنة الأميركية «الحميدة»، الراعية الأصلية للعولمة النيوليبرالية، وما ترتّب عليه من سياسات احتواء وحصار وضغوط قصوى وتطهير عرقي، عن صيرورة المعمورة ساحة حروب ونزاعات يصعب استشراف مآلاتها.
ما هو سبب «انقسام العالم» الذي يسعى منظّمو «دافوس» للحد من نتائجه عبر اعتماد «التعاون» بين أبرز لاعبيه لضمان «الأمن»؟ عندما تعلن الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ إدارة أوباما، وإلى إدارتَي ترامب وبايدن، أن أولوية واشنطن هي «احتواء الصعود الصيني»، عبر تبنّي استراتيجية احتواء عدوانية تجاه بكين، ومن ثم الدعوة إلى «عولمة بين أصدقاء» تأخذ في الاعتبار المجابهة الجيوسياسية معها، وتحضّ شركاتها وحلفاءَها على «فسخ الشراكة» معها، ما هو معنى «التعاون» في مثل هذا السياق؟ الأمر نفسه ينطبق على روسيا الذي أفضى الإصرار الأميركي والغربي على توسيع «الناتو» شرقاً وصولاً إلى حدودها، رغم تحذيراتها المتكرّرة لسنوات عدة من مغبّة ذلك، إلى حرب مستعرة معها. لم يخطئ المؤرّخ وعالم الأنثروبولوجيا الفرنسي، إيمانويل تود، عندما اختار لكتابه ما قبل الأخير، الصادر باليابانية في بداية العام المنصرم، عنوان «الحرب العالمية الثالثة قد بدأت». العالم في حالة حرب، وليس «منقسماً» فقط، كما أشار منظّمو «دافوس»، ومن المحتمل، كما تثبت التجارب التاريخية الكثيرة، أن تتدحرج الحرب أو الحروب عندما تدور بين قوى كبرى، من مستوى منخفض أو متوسط إلى مستوى مرتفع، وكذلك أن يتّسع نطاقها الجغرافي لتشمل دولاً ومناطق جديدة.
لا تشذّ المقاربة الأميركية لشؤون منطقتنا عن السياق العام لسياساتها للسيطرة والتحكّم


لا معطيات متوافرة إلى الآن عن مراجعات أميركية تقود إلى البحث عن سبل سلمية لحلّ النزاع الجاري في أوكرانيا، رغم الفشل الذريع لهجوم جيشها المضاد على ذلك الروسي المتواجد في شرقها. يعتقد بعض المحلّلين أن فوزاً لترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة في آخر هذه السنة قد يؤدي إلى «جنوحه نحو السلم مع روسيا»، وهو ما قد يقدم عليه بالفعل للتفرغ بشكل أفضل لمجابهة أشد حدة مع الصين. التوتر بين هذه الأخيرة والولايات المتحدة، أياً كان رئيسها، مرشحٌ للمزيد من التصاعد في الفترة المقبلة، وحول تايوان تحديداً، بعد فوز لاي شينغ تي، مرشح «الحزب الديموقراطي التقدمي» ذي النزعة الانفصالية، والذي يحظى بدعم واشنطن، في الانتخابات الرئاسية في الـ13 من هذا الشهر.
المشكلة تكمن في أذهان النخب الحاكمة في واشنطن ودولتها العميقة، التي ترفض الإقرار بالتحوّلات الكبرى التي طرأت على موازين القوى الدولية لغير صالحها، والقبول بمنطق التفاوض مع القوى غير الغربية الصاعدة، والأخذ بمصالحها القومية الحيوية في الاعتبار، والاستعداد لتفاهمات معها تتضمّن تنازلات. السعي للحفاظ على الهيمنة الأحادية الأميركية، على الرغم من تآكل قدراتها ومواردها السياسية والاقتصادية والعسكرية، الذي كشفته الحرب الأوكرانية، والذي يلفت إليه أيضاً إيمانويل تود في كتابه الأخير الصادر بالفرنسية بعنوان «هزيمة الغرب»، هو الذي يفسر المضي في سياسات عدوانية رعناء ضد روسيا والصين، وتجرؤ هاتين الأخيرتين، نتيجة إدراكهما لموازين القوى المستجدة، على التصدي لها بحسم أكبر من ذي قبل. ربما ستقود هزيمة التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة في الحرب الأوكرانية، وهو ما يعتقده تود، بسبب عجزه عن تأمين المتطلبات العسكرية للحليف الأوكراني، وفي مقدّمتها الذخائر، إلى تفكّكه، وتوجّه دولة وازنة كألمانيا إلى التفاهم مع روسيا على إعادة بناء نوع من الشراكة معها، وبالتالي مزيد من رجحان موازين القوى لغير صالح واشنطن، وفرض وقائع جديدة على الأخيرة تحملها على التراجع عن توجهاتها الراهنة.
لا تشذّ المقاربة الأميركية لشؤون منطقتنا عن السياق العام لسياساتها للسيطرة والتحكّم ومحاولة إخضاع الآخرين ولو بالقتل الجماعي والإبادة. تجلّت هذه المقاربة بوضوح مرة أخرى في المقابلة التي أجراها وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، مع منظّر «العولمة السعيدة»، توماس فريدمان، خلال «قمة دافوس». عرض بلينكن جهود الولايات المتحدة لتسريع عملية التطبيع بين دول عربية، وفي مقدّمتها السعودية، والكيان الصهيوني، وهو ما سيسمح بـ«عزل إيران وحلفائها»، وجزم بأننا اليوم أمام فرصة تاريخية سانحة لإنجاز مثل هذا الأمر، شريطة أن يقبل الإسرائيليون بـ«مسار» (A Pathway)، يفضي إلى قيام دولة فلسطينية. يظنّ بلينكن أن مثل هذا الخداع سينطلي على من خبر لحوالي 3 عقود ما يعنيه الأميركيون بكلمة مسار، أي عمليات تفاوض لا تنتهي وشروط تتبعها شروط أخرى على الطرف الفلسطيني، ما يتيح لإسرائيل ربح الوقت الكافي لابتلاع الأرض واستيطانها وحشر الفلسطينيين في معازل أو ربما تطهيرهم عرقياً أو حتى محاولة إبادتهم كما تفعل في غزة.
لقد تجلّت، على خلفية حرب غزة، الشراكة الأميركية مع الكيان الصهيوني حتى في حرب إبادة الفلسطينيين، وهو ما أدّى إلى صراع مباشر بين بعض قوى محور المقاومة والقوات الأميركية المحتلة في سوريا والعراق، وكذلك في باب المندب والبحر الأحمر. التورط الأميركي المباشر في النزاع في غزة ولّد نزاعين جديدين مرشحين للتفاقم ولأن يصبح لهما منطقهما الخاص في العراق وسوريا وفي اليمن. سياسة الحرب الأميركية تولد النزاعات وتعمّق انقسامات العالم، لكن «أهل دافوس» لا يعلمون أو يتعامَون عن هذه الحقيقة الفاقعة.