كما في الفقرات الدستورية المتعلّقة بعمل البرلمان والحكومة، توسّعت صلاحيات الرئيس كذلك، وبموجب التعديل الدستوري الذي أُقرّ مطلع الولاية الرئاسية الثانية لإردوغان، لتشمل الإدارة والقضاء، بخاصّة في ما يتّصل منها بتعيين كبار مسؤولي الدولة، وعدد وازن من مجلس القضاة والمدّعين العامّين، المعنيّ الأول بالإشراف على عمل المحاكم التركية. وعلى رغم بقاء بعض القيود المحدّدة لدور الرئيس، قلّص الدستور الجديد، وكجزء من «مخطّط» إردوغان لتحييد السلطة الرقابية للمؤسستَين التشريعية والقضائية، هامش صلاحيات البرلمان في مساءلة الحكومة والوزراء، إلى الحدود الدنيا، كما سمح بتغوّل السلطات القضائية للرئاسة عبر منح الأخيرة حقّ تعيين غالبية قضاة المحكمة الدستورية، التي تُعدّ المرجع الصالح للبتّ في دستورية القرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية، علماً أنّ ذلك جاء عقب إلغاء المقعدَين المخصّصين للمؤسسة العسكرية فيها. وبهدف تدجين قادة الجيش، ودرءاً لاحتمالات وقوع انقلابات في المستقبل، أُلغي القانون العسكري، حتى يُصار إلى إخضاع عناصره وقياداته لهيئة قضائية مدنية، ممثَّلة بمجلس الدولة، مع حصر خضوعهم للقضاء العسكري في حالات الانضباط المسلكي والتنظيمي فقط.
عرجت تركيا، خلال السنوات الأخيرة من حكم إردوغان، في طريق مغاير تماماً لِما روّجت له نخب عربية وغربية
أمام هذا الواقع، عرجت تركيا، خلال السنوات الأخيرة من حكم إردوغان، في طريق مغاير تماماً لِما روّجت له نخب عربية وغربية عن «نموذجها الفريد» الذي يجمع ما بين «الديموقراطية» والإسلام، ونحت في اتّجاه حُكم سلطوي لا يقيم وزناً للحريات وحقوق الإنسان، بصورة جعلت البلاد تتذيّل الترتيب العالمي إلى جانب أنظمة قمعية أخرى، وفق مؤشرات منظّمة «فريدوم هاوس» للحريات السياسية لعام 2023. هنا، تقدّم المعارضة نفسها بصورة «المخلّص» و«المسخّر»، وهو ما تنضح به مقالة نشرها المرشّح الرئاسي، كمال كيليتشدار أوغلو، في مجلّة «ذي إيكونوميست»، قبل أسابيع قليلة من موعد الانتخابات، لعرض ما دأب على تسميته بـ«الربيع والرفاه»، من باب إعادة الرونق إلى «النموذج الديموقراطي التركي»، عبر إحياء وبعث النظام البرلماني، وإنعاش «التوافق القيَمي» مع الغرب.
وليس من الصعوبة في مكان، إيجاد أوجه شبه كثيرة بين البرنامج الانتخابي للمعارضة، الذي جاء بعنوان «تركيا الغد»، والواقع في 240 صفحة، وتحديداً ما جاء في البنود الـ12 الواردة في «خارطة الطريق» التي أعلنها ائتلاف «الطاولة السداسية» في آذار الماضي، في شأن تصوّراته عن نظام الحُكم «المنشود» في البلاد، وما كان معمولاً به في فترة ما قبل دستور عام 2018. فـ«الخارطة» تنصّ على «عملية انتقال إلى النظام البرلماني المعزّز»، بالاستناد إلى المبادئ العامّة التي تحكم هذا النموذج السياسي، ولا سيما لجهة مراعاة التشاور والتوازن بين السلطات السياسية والأمنية والقضائية والمالية. كما تولي أهمية لتعزيز مبادئ الرقابة، جنباً إلى جنب مع إقرار مراسيم رئاسية تنشئ سلطة ما يُعرف بـ«مجلس الوزراء الرئاسي»، المكوّنة من الوزراء ونائب الرئيس وتحدّد صلاحيات وعلاقات كل منهم، بمؤسّسة الرئاسة، التي من شأن إقرار «المشروع الدستوري المعارض»، أن يعيدها إلى دورها كسلطة محايدة، منزّهة عن الاصطفافات الحزبية، وتكريس دورها كراعية للتوازن المذكور، بحيث يصار إلى إبطال عضوية الرئيس من الحزب المنتمي إليه فور انتخابه، وذلك ضمن مواصفات وشروط تجعل الرئاسة أقرب إلى أن تكون منصباً شرفياً محدود المدّة والصلاحية.
وكنوع من ترسيخ الصيغة التشاركية للسلطة بعيداً عن تفرّد مؤسسة دستورية بسلطتَي التقرير والتعيين على حساب أخرى، تلحظ الخارطة آلية تلقائية ومسبقة لتعيين نواب الرئيس، بحيث تؤول إلى الرؤساء العامّين للأحزاب المشاركة في الائتلاف، على أن يعكس التمثيل الوزاري للأحزاب نتائج الانتخابات البرلمانية، ضمن إطار دستوري يكفل تعيينهم وإقالتهم بالاتفاق بين رئيس الجمهورية، ورئيس الحزب الذي ينتمي إليه الوزير. وفضلاً عن تقييد «الصلاحيات الرئاسية»، سواء على صعيد الدعوة إلى الانتخابات، أو سياسات الأمن القومي، لا تغفل التعديلات الدستورية، المقترحة من ائتلاف «السداسية» ضرورة استعادة البنك المركزي استقلاليته الكاملة مجدّداً، ووقْف خضوعه لأهواء الرئيس.
بوجه عام، ينبئ مشهد ما بعد الانتخابات، بما قد يسرّ البعض ويحزن آخرين خارج تركيا، لكنه بلا شكّ سيفطر قلوب الكثيرين داخلها من مريدي الديموقراطية، والحريات. ديموقراطيةٌ لا تعني بالضرورة ذاك المفهوم الذي تزخر به عادةً بيانات حكومات الغرب.