مَن يراهن على «الوفاء» الأميركي مقابل ما قدّمه من خدمات، سيندم ولو بعد حين
فكرة استغلال التناقضات الإثنية والطائفية في المنطقة لإضعاف دولها المركزية بعد الاستقلالات، إسرائيلية في الأساس، ومثّلت جزءاً لا يتجزّأ من «الاستراتيجية الطرفية» التي اتّبعها الكيان الصهيوني منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والمرتكزة على السعي للتحالف مع دول الجوار غير العربية، ومع من صنّفهم «أقليات» في داخل البلدان العربية. يشير الصحافي الأميركي، جوناثان رندال، في كتابه الهام «أمّة في شقاق»، إلى أن إسرائيل أقامت علاقات في بداية الستينيات مع الملا مصطفى البرزاني، رئيس «الحزب الديموقراطي الكردستاني»، وقدّمت له دعماً عسكرياً ومالياً كبيراً مع انفجار النزاع بين قواته وبين الجيش العراقي في تلك الفترة، وأن هذه العلاقات شهدت تطوّراً مستمرّاً فيما بعد. غير أن المنعطف الحقيقي في تاريخ توظيف القضية الكردية، كان الدعم النوعي والمتعدّد الأبعاد الذي وفّرته الولايات المتحدة للحركة الكردية في العراق عام 1991، بعد ما سُمّي بـ«حرب تحرير الكويت»، بدءاً بالحظر الجوّي الذي فرضته فوق كردستان، وأتاح تحوّل الأخير إلى إقليم خارج عن سيطرة الدولة العراقية. لقد أشرفت واشنطن على إنشاء شبه دولة كردية في شمال العراق تنامت قوّتها وقدراتها مع مرور الزمن، خاصة بعد الغزو الأميركي عام 2003، والذي كان مقدّمة لإعادة صياغة «الشرق الأوسط» على أسس طائفية وإثنية.
زمرة المحافظين الجدد الصهيونية، التي وقفت خلف هذا المشروع، حاولت تكرار ما جرى بعد اجتياح جيوش الغرب للإقليم إثر الحرب العالمية الأولى، عندما تمّ تقسيمه وزرع إسرائيل في قلبه. اعتبر هؤلاء أن الكيان الكردي الناشئ سيضطلع بمهام وظيفية شبيهة بتلك التي قام بها الكيان الإسرائيلي في سياق عملية التقسيم الجديدة التي خطّطوا لها. وفي الحقيقة، ومن منظور التنظيمات القومية الكردية المسلّحة في البلدان الأخرى كإيران وتركيا، وفي مرحلة متأخّرة سوريا، أضحى هذا الإقليم «قصّة نجاح»، ونموذجاً يُحتذى، وملجأً لبعضها، كالمجموعات الكردية الإيرانية أو التركية، تستخدمه كقاعدة خلفية لعملياتها في تركيا وإيران. التناقضات السياسية والأيديولوجية بين بعض تلك التنظيمات، كـ»حزب العمال الكردستاني» و»الحزب الديموقراطي»، والتي أدت إلى صدامات دموية أحياناً، لم تَحُل دون استبطان الأوّل، وغيره من المجموعات المسلّحة الكردية، لاعتقاد مفاده أن النجاح في تحقيق أهدافها منوط بمدى قدرتها على نسج تحالف مع الولايات المتحدة والغرب. ومن الجدير ذكره، هنا، أن حزب «بيجاك»، الفرع الإيراني لـ»حزب العمال» الناشط ضدّ تركيا، باشر عمله المسلّح ضدّ إيران عام 2004، أي سنة بعد غزو العراق، وأن العديد من قادته وعناصره، كإلهام أحمد مثلاً، انضمّوا فيما بعد إلى «قوات سوريا الديمقراطية»، وساهموا في الدفع نحو توثيق الصلات مع الأميركيين، ومع الإسرائيليين، كما اتّضح في فضيحة تهريب النفط السوري، بعد توقيع عقد لهذه الغاية بين أحمد ورجل الأعمال الإسرائيلي موتي كاهانا (راجع: نفط الشمال السوري بيد إسرائيل!، الأخبار، 15 تموز 2019).
لقد أدّى غزو العراق إلى انتشار مواقع عسكرية ومراكز تدريب للمجموعات المسلّحة الكردية الإيرانية في كردستان، تشنّ منها هجمات على إيران برعاية ومساندة أميركية وإسرائيلية. وقد اتّضح مع الأحداث التي تشهدها إيران أخيراً، حجم الدور الذي تضطلع به هذه المجموعات، وشبكاتها العاملة داخل أراضي الجمهورية الإسلامية. أما «قوّات سوريا الديمقراطية»، فهي استغلّت الحرب الدولية - الإقليمية ضدّ سوريا، ودورها كقوة رديفة للقوات الأميركية في الحرب على «داعش»، لتسيطر على مساحات واسعة من الشرق السوري، وأسهمت في استراتيجية واشنطن لحرمان الدولة السورية من مواردها. استلهمت جميع تلك المجموعات «التجربة الكردية العراقية»، وأهمّ دروسها هو الاندراج في الأجندة الأميركية والسعي إلى بلوغ الغايات الخاصة في إطارها. هي حرصت أيضاً على الإفادة من التناقضات بين دول الإقليم، والتقاطع أحياناً مع بعضها ضدّ بعضها الآخر، للاحتفاظ بمكاسبها وتوسيع هامش مناورتها. لكن المستجدّات المرتبطة بتداعيات الحرب في أوكرانيا على السياق الجيوسياسي الإقليمي، وما نراه من جهود روسية للتقريب بين دمشق وأنقرة، ومن اعتدال في نبرة المعارضة الروسية والإيرانية لتدخّل عسكري تركي ضدّ «قسد» في سوريا، ومن تزامن في توظيف «الورقة الكردية» في إيران وفي تركيا (تفجير إسطنبول)، جميعها عوامل قد تفضي إلى تقاطع أكبر بين دول الإقليم في مواجهة التنظيمات الانفصالية الكردية. مَن يراهن على «الوفاء» الأميركي مقابل ما قدّمه من خدمات، سيندم ولو بعد حين.