يقوم الرئيس التركي بمراجعة للسياسة التي اعتمدها في السنوات العشر الماضية
وسائل الإعلام السعودية تولّت نشر الإعلان التركي عن الزيارة، من دون تأكيد رسمي سعودي، وقدّمها «الوطنجية» على وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارها اعترافاً من إردوغان بأنه «تاجَر» بدم خاشقجي عندما اتّهم ولي العهد بقتله، وأنه جاء الآن يعتذر عن خطئه، على رغم أن التراجع التركي لم يبدأ مع الزيارة، بل بعد الجريمة بأسابيع قليلة حين توقّف الرئيس التركي عن كشف المزيد من التفاصيل التي كان قد لوّح بإماطة اللثام عنها، ثمّ تحويل المحاكمة الغيابية للمتهمين في إسطنبول إلى محاكمة صورية لن توصل إلى أيّ نتيجة. وبغضّ النظر عن طريقة تقديم كلّ من الطرفَين للزيارة، فإنها ستكون في الجوهر عملية مقايضة، يحصل بموجبها الرئيس التركي على مكاسب اقتصادية هو بأمسّ الحاجة إليها - في ظلّ الأزمة التي تعانيها بلاده ولا سيما لناحية تدهور سعر الليرة -، من بينها إنهاء المقاطعة السعودية للمنتَجات التركية، وربّما قيام المملكة باستثمارات في تركيا، وتشجيع مواطنيها على السياحة في بلاده، مقابل دفْن قضية خاشقجي تماماً، فيما لم يَعُد دعم «الإخوان المسلمين» في الدول العربية مشروعاً مجدياً لإردوغان، نتيجة فشله الذي أظهرته أحداث «الربيع العربي»، علماً أن السعودية كانت أصلاً أقلّ دول الخليج (باستثناء قطر) تأثُّراً بهذا التهديد، بمجرّد سقوطه في مصر، بعدما تولّت بنفسها منذ زمنٍ، قمْعَ «إخوانها».
يقوم الرئيس التركي حالياً بانعطافة ومراجعة للسياسة التي اعتمدها خاصة في السنوات العشر الماضية، تمهيداً لانتخابات عام 2023 التي ستكون الأهمّ بالنسبة إلى «حزب العدالة والتنمية»، وله شخصياً، منذ تصدُّره المشهد السياسي التركي في عام 2002، حيث حَقّقت المعارضة العلمانية في السنوات الأخيرة مكاسب جوهرية، مستفيدة من فشل سياسات إردوغان، والذي تمظهر بوضوح في انهيار الليرة. والفشل هذا نفسه هو بالضبط ما كان أوصل الإسلاميين إلى السلطة، بعد سنوات تخبّط العلمانيين في خلافاتهم السياسية التي انعكست أصفاراً كثيرة على سعر الدولار مقابل الليرة، فجاء إردوغان بشعار الاستقرار الاقتصادي مع صفر مشاكل سياسية، وإذ به ينتهي إلى انهيار اقتصادي سببه سياسي، ويسعى لاستنقاذ نفسه قبل أن تدهمه الأصفار على سعر الصرف.
في ذروة الأزمة في العلاقات التي أثارها اغتيال خاشقجي، بدا إردوغان مصمّماً على إسقاط وليّ العهد السعودي، ليس عقاباً له على انتهاك السيادة التركية فقط، وإنّما ضمن هدفه المتمثّل في توسيع نفوذه في المنطقة، وخاصة في الخليج الغني. وعلى خلفية ذلك، جاء الحجّ السعودي يومها باتجاه تركيا، لكنّ الرئيس التركي رفض رشوةً سعودية على شكل حُزمة اقتصادية حاول أن يقدّمها إليه أمير مكة، خالد الفيصل، الذي زاره موفداً من الملك سلمان. حينها، كان إردوغان لا يزال ينكر فشل مشروعه، ظانّاً أن بإمكانه أن يستعيد مجد السلطنة الغابر في هذه المنطقة. اليوم، يتجدّد الحجّ، إنّما في الاتّجاه المعاكس، وكلّ ما يريده «السلطان» هو تلك الرشوة التي رفضها قبل ثلاث سنوات.