منذ توقيع اتفاقية «خفض التصعيد» بين روسيا وتركيا ضمن مسار «أستانا» الذي تنخرط فيه إيران أيضاً، عام 2017، وملحقاتها من اتفاقيات عام 2020، والتي وفرت بيئة آمنة إلى حد ما للفصائل «الجهادية» المسيطرة على إدلب ومناطق في ريف حلب، بعد تعهّد تركي - لم يُنفّذ - بعزل هذه الفصائل، عاشت الأخيرة حالة من الرخاء الداخلي. ووفرت هذه الحالة لزعيم «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة - فرع القاعدة السابق في سوريا)، أبو محمد الجولاني، فرصة لإعادة تنظيم ما أمكن من صفوفه، بدعم تركي واضح، كما وفّرت مساحة حاول من خلالها بناء أنظمة دفاعية على خطوط التماس، عبر حفر أنفاق، وإنشاء تشكيلات مختلفة من التحصينات، أملاً في تأمين المواقع التي يسيطر عليها.في مقابل ذلك، استمرت عمليات الاستهداف التي كان ينفذها الجيش السوري ضد تلك الفصائل، بدعم روسي في بعض الأحيان، عبر هجمات صاروخية أو عن طريق سلاح الجو، تبعاً لبنك أهداف يتم تحديثه باستمرار عن طريق طائرات مراقبة مسيّرة. والطائرات هذه شكلت، وفق مصادر ميدانية، «وسائل واضحة» حاولت الجماعات المسلحة تجاوزها مع مرور الزمن، عبر بناء تحصينات تطلّبت من الطرف المقابل تحديثاً لآليات الاستهداف القائمة لتلافي أيّ ثغرات محتملة. ثم دخلت الطائرات المسيّرة على خط المواجهة، بمختلف أشكال عملها التي أثبتت فعاليتها بشكل كبير في اختراق أنواع مختلفة من التحصينات، ولا سيّما بعد استخدامها المكثّف في الحرب الروسية في أوكرانيا. وفيما تجلّى بوضوح استعمال الجيش السوري والقوى التي تؤازره، منذ مطلع العام الحالي، سلاح الطائرات المسيّرة الانتحارية، التي نجحت في ملاحقة المسلحين في كثير من العمليات إلى داخل أنفاقهم ومخابئهم، أظهرت الصور والتسجيلات التي تداولتها صفحات وناشطون يواكبون عمليات الجيش، تمكّن المسيّرات من التحليق على ارتفاعات منخفضة وتنفيذ مناورات دقيقة قبل اقتحامها مخابئ المسلحين، فضلاً عن ميزات عديدة توفّرها، من بينها البث المباشر لعملياتها، وانخفاض تكاليفها مقارنة بالأسلحة الأخرى.
السلاح الذي حاولت الفصائل «الجهادية» استثماره في استهداف الجيش السوري، أضحى سلاحاً فعالاً ضدّها


كذلك، أظهرت التسجيلات المتداولة استعمال أنواع مختلفة من المسيّرات، أكثرها شهرة في الآونة الأخيرة مسيّرات من نوع «FPV»، يتم التحكم بها عن بعد، وتقوم بالتقاط التسجيلات وبثها مباشرة من منظور الشخص الذي يتحكم بها، ما يوفر لمن يقودها قدرة فائقة على ملاحقة الأهداف المتحركة، وتنفيذ مناورات دقيقة لتلافي محاولة استهدافها، الأمر الذي يتطلب تدريبات دقيقة قبل استعمالها، بالإضافة إلى الاستعانة بطائرات الاستطلاع التي تساهم في تشكيل خريطة دقيقة لبنك الأهداف، تساعد الشخص الذي يقوم بقيادة المسيّرة في تنفيذ المهمة. واللافت في هذا النوع من الأسلحة، إلى جانب إصابة الأهداف بدقة، إمكانية صناعتها محلياً، عبر تطوير بعض معداتها اللازمة التي تتوافر في الأسواق. وبحسب التسجيلات التي يتم تداولها، بات الجيش السوري يمتلك تلك المعدات لتطوير أسلحته، وهو ما تجلّى في فروق كبيرة بين استعمال هذه الأسلحة في الفترة الأولى، والتقنية العالية التي وصلت إليها خلال الأيام الماضية، حيث أتاحت فرصة كبيرة لضرب دفاعات الفصائل بدقة، وتدمير الكثير من الأنفاق.
وإلى جانب سلاح المسيّرات، تظهر التسجيلات نفسها استعمالاً أكثر وضوحاً للقذائف التي يتم التحكم بها، لتنفيذ استهدافات دقيقة لآليات الفصائل، عند خطوط التماس، الأمر الذي شكّل ثنائية أعادت رسم شكل الحرب القائمة. وفي هذا السياق، تشير مصادر ميدانية في مناطق سيطرة الفصائل في إدلب، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن هذه التكتيكات تسببت بحالة إرباك كبيرة في صفوف المسلحين، الذين كانوا يتنقلون في كثير من الأوقات بحرية، ويتمترسون داحل تحصيناتهم التي يشعرون بالأمان فيها. وتوضح المصادر أن الأسلحة التقليدية التي يستعملها الجيش السوري، سواء المدفعية أو الصواريخ، «عادة ما تستهدف مقارّ وبنى تحتية للمسلحين في مناطق بعيدة نوعاً ما عن خطوط التماس، غير أن المسيّرات يتم إطلاقها من مسافات قريبة جداً، وتطير على ارتفاعات منخفضة»، الأمر الذي ساهم في زيادة الإرباك داخل صفوف تلك الجماعات.
وفي وقت تعتّم فيه الفصائل على خسائرها جراء هجمات الجيش السوري، تظهر صور وتسجيلات متلاحقة خسائر متواصلة في صفوفها، سواء من المقاتلين السوريين أو غير السوريين، الذين وضعهم الجولاني على خطوط التماس الأولى مع الجيش السوري، في أرياف حلب وإدلب واللاذقية، حيث حاولوا خلال الشهور الماضية تنفيذ هجمات مباغتة على مواقع الجيش السوري، وتكثيف هجماتهم بالطائرات المسيّرة. وكانت إحدى الهجمات قد نجحت في الوصول إلى الكلية الحربية في حمص، في تشرين الأول الماضي، خلال حفل تخريج دفعة، ما تسبب بمجزرة راح ضحيتها العشرات، بينهم أطفال ونساء، ردّ الجيش السوري عليها بتنفيذ حملة استهدافات واسعة طاولت مواقع تصنيع هذه المسيّرات، وغرف إدارتها. وعلى خط مواز، عمل الجيش السوري على تحصين مواقعه بمعدات دفاعية مناسبة للتصدي للمسيّرات وإسقاطها لدى قيام الفصائل بإطلاقها، عبر منظومات دفاعية متعددة، بعضها روسي الصنع، قامت القوات الروسية، وفق صور تم تداولها، بتدريب قوات الجيش السوري على استعمالها في ريف إدلب، الأمر الذي خلق ظروفاً معاكسة لما حاولت الفصائل «الجهادية» خلقه، ليصبح السلاح الذي حاولت استثماره في استهداف الجيش السوري سلاحاً فعالاً ضدها.