فتحت زيارة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، للقاهرة، واللقاء الذي أجراه مع نظيره المصري، عبد الفتاح السيسي، الباب مرة أخرى، أمام التكهّن بعودة مسار التقارب التركي - السوري إلى الحياة، والذي كان أصابه الشلل، على خلفية مراوغة أنقرة ومحاولتها الاستفادة القصوى من هذا المسار لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية داخلية، بالتزامن مع خوض الرئيس التركي انتخابات رئاسية حاسمة، لعب فيها الملف السوري دوراً هاماً. والجدير ذكره، هنا، أن زيارة إردوغان إلى مصر جاءت، هذه المرة أيضاً، بالتزامن مع خوض حزبه، «العدالة والتنمية»، انتخابات بلدية يعتبرها حاسمة - بعد أن شكّلت الانتخابات المماثلة السابقة لها انتكاسة له إثر خسارته العديد من البلديات المهمة -، وذلك بعد سنوات من العداء بين أنقرة والقاهرة، رفع خلالها إردوغان تصريحاته إلى مستويات غير مسبوقة، وصلت إلى حدّ وصفه نظيره المصري بـ«الطاغية»، وممارسته الضغوط لفرض عقوبات على الأخير عبر مجلس الأمن. ويعيد ما تقدّم التذكير بالظروف التي مهّدت للتقارب بين دمشق وأنقرة خلال الانتخابات الرئاسية، علماً أن الحماسة التركية لذلك المسار شهدت تراجعاً كبيراً عقب انتهاء ضجيج الانتخابات التي فاز فيها إردوغان، غير أن هذا التراجع لم يشهد انقلاباً كاملاً في الموقف التركي، الذي استمر في محاولة إمساك العصا من المنتصف، عبر الانخراط في مسار «أستانا» الروسي، والحديث المتكرر عن «ترك الباب مفتوحاً أمام دمشق للانخراط في علاقات مباشرة». وفيما لا تزال قضية اللاجئين السورية على وجه الخصوص، والملف السوري عموماً، يلعبان مرة أخرى دوراً كبيراً في الانتخابات المقبلة، تزايدت التكهنات حول تنشيط عملية التقارب بين البلدين، ولا سيما مع توافر المزيد من قنوات التواصل بعد عودة سوريا إلى مقعدها في «جامعة الدول العربية»، وانفتاح معظم الدول العربية على دمشق بما فيها الإمارات والسعودية. ويأتي ذلك فيما تحاول أنقرة توثيق العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الأخيرتين، الأمر الذي يتطلب إلى جانب تنسيق العمل السياسي مع الإمارات والسعودية، استعادة الطرق البرية أمام المنتجات التركية، ما يعني في المحصّلة فتح طرق الترانزيت في سوريا، الطريق الرئيسية للبضائع التركية نحو دول الخليج من جهة، وطرق المنتجات والبضائع الخليجية نحو تركيا والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى.
ورغم الزخم الكبير في وسائل الإعلام حول إمكانية استعادة مسار التقارب مع دمشق، نظراً إلى تاريخ الرئيس التركي البارع في تغيير سياسته والقفز على الحبال السياسية، لا تشير الأوضاع على الأرض إلى أي تغييرات حقيقية في الظروف والمسبّبات التي عرقلته أصلاً، إذ تحافظ تركيا على مخططها في الشمال السوري، حيث ينتشر الجيش التركي بشكل غير شرعي، فضلاً عن تقديمه الدعم للفصائل المسلحة التي تتحكّم في الشمال، وعلى رأسها «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة - فرع تنظيم القاعدة السابق في سوريا) والتي تسيطر على إدلب، فيما كانت ربطت دمشق تقاربها مع أنقرة بمخطط واضح لخروج القوات التركية.
لا تشير الأوضاع على الأرض إلى أي تغييرات حقيقية في الظروف والمسبّبات التي عرقلت مسار التقارب


وبالتزامن مع ذلك، تتابع أنقرة سياسة التتريك في تلك المناطق التي تفرض فيها التعامل بالليرة التركية، وتدريس اللغة التركية، وبناء تجمّعات سكنية قرب الشريط الحدودي، في المناطق التي تسيطر عليها الفصائل، لتوطين اللاجئين السوريين فيها، بتمويل قطري، وسط زيادة الضغوط على هؤلاء ورفع وتيرة ترحيلهم القسرية. وفي السياق، أعلن وزير الداخلية التركي، علي يرلي، الأسبوع الماضي، أن عدد اللاجئين السوريين العائدين إلى الشمال السوري بلغ 625 ألفاً، وأن هذا العدد مستمر في الارتفاع، ضمن خطة تهدف إلى ترحيل 200 ألف لاجئ سوري إلى مناطق في شمال سوريا خلال العام الحالي، علماً أن عدد اللاجئين السوريين انخفض منذ بداية 2023، بمقدار 247 ألفاً و143 شخصاً، كما انخفض عدد المسجّلين بمقدار 19 ألفاً و127 شخصاً في تشرين الأول، مقارنة بأيلول، وفق إحصاءات رئاسة الهجرة التركية.
وإلى جانب قضية اللاجئين السوريين، تلعب قضية الأكراد دوراً كبيراً في الملف السوري بالنسبة إلى أنقرة، إذ تربط وجودها العسكري بـ«محاربة الإرهاب»، في إشارة إلى «قوات سوريا الديموقراطية». وخلال الشهور الماضية، كثّفت أنقرة عمليات قصف واستهداف المناطق التي تسيطر عليها «قسد»، ضمن خطة تهدف إلى ضرب «البنى التحتية» في مناطق «الإدارة الذاتية»، شملت استهداف مصافٍ لتكرير النفط، ومراكز تجارية وصناعية وطبية وغيرها، وذلك عبر طائرات مُسيّرة وقذائف مدفعية وصاروخية. ولم تلقَ هذه الاستهدافات أي ردة فعل من الولايات المتحدة الأميركية التي تتحكّم بـ«قسد»، ما كان بمثابة ضوء أخضر أميركي لأنقرة، جاء بالتزامن مع عمليات ضم السويد وفنلندا إلى «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، والذي كانت ترفضه تركيا، قبل أن توافق عليه أخيراً، في وقت أعلنت فيه واشنطن قبول تمرير صفقة طائرت «F16» لتركيا، والتي كانت مجمّدة.
أيضاً، تتابع تركيا سياسة التحكّم بمياه نهر الفرات - أحد أبرز الملفات الخلافية مع دمشق وبغداد -، في تجاوز متعمّد لاتفاقية عام 1987 التي تحافظ على حصة سوريا في مياه النهر الدولي، الذي تعتبره أنقرة «نهراً عابراً للحدود»، لتجاوز الالتزامات الدولية التي تنظم تقاسم مياه الأنهار الدولية. وكان هذا الأمر تسبّب بأضرار بيئية كبيرة في سوريا وأخرى أكبر في العراق، الذي يعاني جفافاً غير مسبوق، في وقت تسجّل فيه المنطقة ارتفاعاً كبيراً في درجات الحرارة، صيفاً، وسيولاً وكوارث طبيعية متزايدة، في الشتاء.