غسان سعود

الإثنين 29 نيسان 2013

شارك المقال

سمير جعجع وحيداً في مواجهة رياح الهــواجس المسيحية

لا علاقة لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، من قريب أو بعيد، بخطف المتشددين الإسلاميين في حلب المطرانين السرياني والأرثوذكسي اللذين يوصفان في الأوساط الكنسية بحجري الزاوية في الكنيسة السورية. ولم تكن له، ربما، علاقة سابقاً بإقفال بيوتات المارونية السياسية (اغتيالاً في حالتي فرنجية وشمعون، وتهجيراً في حالة آل الجميل)، أو بالخسارتين المسيحيتين الاستراتيجيتين الأكبر في الحرب (الجبل وزحلة)، أو بخطف الرئيس رفيق الحريري، عبر اتفاق الطائف، النفوذ المسيحي من إدارات الدولة والسلطتين التنفيذية والتشريعية لشغل شغوره بنفوذ تياره.

لكن «يصدف» أن جعجع يقف، دائماً، في صفّ المتهمين بالخطف. أما إصداره البيان تلو الآخر لإدانة خطف المطرانين، فلن يغيّر الاعتقاد السائد في بيئة القوات بأن خاطفي المطرانين ليسوا إلا من يحض قائد القوات مجتمعه، منذ عامين، على الوثوق بهم. فخوف المسيحيين في سوريا ولبنان «نابع من فرضيات لا شيء يثبت صحتها» كما قال جعجع في احتفال «ربيع شعوب خريف أنظمة» في ربيع 2012، والنظام السوري «مسؤول عن تقوية التطرف» و«التكفيريون ظاهرة محدودة»، كما لا يزال يقول. ونتيجة ذلك واضحة: الإحصاءات التي تصل الى معراب مطلع كل شهر تلحظ انحداراً عمودياً مستمراً في تأييد هذا «المنطق» منذ تسعة أشهر. أما في الأوساط المدرسية المسيحية، فالخطاب الجديد يعاكس غرائز القوات التاريخية التي كانت تجذب التلامذة. وفي موازاة ذلك، تتعمّق الهوة بين جعجع والبطريركيات المارونية والأرثوذكسية والكاثوليكية بما تشمله من كنائس، والرهبانيات المسيحية التسع بما تضمّه من أديرة ومدارس وجامعات ومسارح، واللوبي المسيحيّ العريض المكوّن من روابط مسيحية وقوى وشخصيات مستقلة. والأكيد، هنا، أن جعجع يحلّق، وحيداً، في مواجهة رياح الهواجس المسيحية: النائب سامي الجميل يلتزم مبدئياً الخطوط العريضة للخطاب السعوديّ في تأييده التغيير في سوريا ومعارضته المسبقة لتولي الإخوان المسلمين أو المجموعات الإسلامية المتشددة الحكم. ونواب 14 آذار الحاليون والسابقون، باستثناء منسق الأمانة العامة لقوى 14 آذار فارس سعيد، يميّعون مواقفهم تجاه الأزمة السورية بحيث يعجز سامعهم عن فهمهم. وقد بات محسوماً لغالبية المتابعين أن التمايز السياسي بين القوات وحلفائها يعكس تموضعها في المعسكر القطري ــــ الإخواني ــــ التركي مقابل تظلّلهم بالعباءة السعودية.
تدفن القوات رأسها الشعبي في التراب ريثما ترسو الأزمة السورية على حل. لكن تداعيات الخلاف المستجد بين جعجع والمستقبل، على خلفية قانون الانتخاب، لا تفسح في المجال أمام النعامة للاختباء. ففي عكار، مثلاً، يتذكّر تيار المستقبل محامين ومهندسين وأطباء يفترض أنه أعارهم للقوات قبل بضع سنوات، فيتصل أحد منسقيه بهم ويبدأ تقديم عروض سخية لإعادتهم إلى البيت المستقبلي. يصف أحد الناشطين المستقبليين هذه العملية بـ«إعادة القوات إلى حجمها الطبيعي» بعدما «نفخها» المستقبل لمواجهة التيار الوطني الحر. ولا يتردد المستقبليون في القول إنهم يمثلون، مسيحياً، أكثر من القوات في عكار، و«ما تفكير الرئيس سعد الحريري بإعطاء مقعد للقوات إلا وجه من وجوه كرمه». أما في الكورة، فلا تمر نهاية أسبوع، منذ نحو أربعة أشهر، إلا ويذيب الشوق النائب فريد مكاري لأحد النازحين من ماكينته إلى ماكينة القوات، فيدعوه الى فنجان قهوة سكره زيادة. وفي ظل انكفاء ماكينات 8 آذار في الكورة، لا تنافس ماكينة مكاري بحركتها المستجدة إلا ماكينة القوات.
ومن تيار المستقبل إلى تيار المستقلين المستقبليين: في زغرتا ما عاد أنصار الرئيس الراحل رينيه معوض يدينون بدين القوات، للمرة الأولى، منذ أربع سنوات. وبتحريض من الرئيس فؤاد السنيورة، بات رئيس حركة الاستقلال ميشال معوض يحضر أكثر في زغرتا، محاولاً جمع شتاته. وهو عقد عشرات اللقاءات في زغرتا وبيروت وأوستراليا، في الأشهر القليلة الماضية، مع زغرتاويين باتوا منذ أكثر من عامين أقرب إلى القوات منهم إليه، من دون أن يتطرق معهم إلى الخلاف المستجد مع القوات على خلفية قانون الانتخابات، أو يخيّرهم بين القوات وحركة الاستقلال. لكن توقيت حركته، بعد تسريب القوات نيتها تسمية مرشحَين من أصل ثلاثة في زغرتا وشعورها بفائض القوة الزغرتاوي، أوضح وجهته.
في تنورين، تتحدث معلومات عن إعداد ماكينة النائب بطرس حرب جدولاً واضحاً بالناخبين المحسوبين عليه الذين سيلتزمون رغبة القوات في حال وقعت الواقعة الانتخابية بينهما. ماكينة حرب عاودت، في الشهرين الماضيين، الاتصال خدماتياً بناخبين كانوا في حساباتها من مسؤولية القوات. وأسئلة حرب، بحسب أحد المقربين منه، عما تفعله القوات ونطاق حركتها اليومي بات يسبق سؤاله عن الوزير جبران باسيل. أما أبرز من لم يعد يوفر القوات في المجالس الخاصة والعامة، فهو رئيس حزب الوطنيين الأحرار دوري شمعون الذي يبدو كأنه اكتشف، فجأة، الفرق بين مخصصات حزبه المالية ومخصصات القوات.
وفيما يشير أحد المقربين من القوات إلى أن علاقة جعجع مع تيار المستقبل تحسنت عما كانت عليه قبل شهرين، وأن الرئيس فؤاد السنيورة بات يتبسم لدروس النائب جورج عدوان في المناورة السياسية، إلا أنه لا شيء يوحي بأن التجاذبات المناطقية ستتوقّف قريباً، وخصوصاً أن من يصفون أنفسهم بـ«المسيحيين المستقلين» وبعض نواب المستقبل يعتبرون أن وجودهم السياسيّ على المحكّ.
لا تنتهي مصائب جعجع هنا. ففي الأشهر القليلة الماضية تسلل النزاع إلى الحديقة الخلفية لقصر معراب: بدل مضيه في مصارعة العماد ميشال عون على زعامته المسيحية، كان جعجع مضطراً الى التراجع، أول من أمس، إلى حدود منزله ليلتقي مجموعة سماها بدوره قدامى القوات اللبنانية، في محاولة منه لإثبات مشروعية قيادته للقوات. استُدرج جعجع الى الفخ: الشباب الذين تجاهلهم وحقّرهم وسخّف نضالاتهم واعتبرهم، أخيراً، صنيعة أجهزة أمنية، أنهكوه في الأسابيع القليلة الماضية بعقد المؤتمرات الصحافية وتنظيم اللقاءات الشعبية واستحداث حركة تصحيحية وإقامة القداديس واستئجار المكاتب وتكثيف الاجتماعات واستغلال الإعلام وإصرارهم على اختراق حصنه وتصحيح رواياته. اضطر جعجع إلى الرد على فؤاد أبو ناضر المهذب، فتعرّف على ما يختزنه هذا الرجل من حنق معتق، ووصلته على نحو مكثف أنباء الاستياء الزحلاويّ العارم من إهانته مناضليهم. لكنه لم يستعد هدوءه. مضى أول من أمس قدماً في نقل الخلاف إلى ملعبه عبر دعوة من يمثلون في نظره «قدامى القوات» إلى لقاء يبايعه الزعامة الحزبية، وخصوصاً أن قيادة الحزب ليست إلا نقطة على جدول أعمال معارضيه القواتيين الذي يتضمن أيضاً تحالفات الحزب وأمواله ونفوذ الزوجات فيه وحقوق المقاتلين وعلاقة أسر الشهداء بعائدات أملاك الحزب وثروته.
لا يموت هماً من يراقب جعجع. يتسلى. يقارن بين مواقفه السابقة تجاه النظام السوري ودعوته أول من أمس، في حضرة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف المسالمة الودودة، مختلف الأفرقاء إلى التوصل إلى حل سلميّ للأزمة. يرى تجاوز مختلف الأفرقاء حكومة التكنوقراط، مقابل وقوف التاريخ في مفكرته عندها. ويتخيله يبرر في مؤتمر صحافيّ اضطراره إلى الخروج عن الإجماع المسيحي على القانون الأرثوذكسي والتصويت في الهيئة العامة ضده.

«مسيرة» فيفيان داغر صليبا: الحزب حيث أكثريـة المحازبين




لم تكن بقالة القرية البعيدة تبيع مجلة غيرها: «المسيرة». كانت صورته بداية بين أكوام التفاح والليمون وأنواع الخضر المتعددة بلا صوت. يقول صاحب الدكان للأطفال المتسائلين عن هوية هذا الفنان: «هذا سمير جعجع». يفهمون من أهلهم أن اثنين فقط يحبونه: رئيسة تحرير «المسيرة» فيفيان داغر صليبا وبائع الخضر الذي يبيع مجلتها رغم تأنيب الاستخبارات السورية الدوريّ له. ولا تلبث الصورة أن تتعلم النطق مع اكتشاف الأطفال سحر المطالعة. يقول لهم أهلهم وأقرباؤهم وجيرانهم عنه أشياء، وتقول لهم فيفيان شيئاً آخر. مراراً وتكراراً كانت تلك المرأة تكذبهم كأنها تعلم ما يدور في صالوناتهم وغرف نومهم، بينهم وبين أهلهم. ويغدو البحث في مجلة فيفيان داغر صليبا عن سجال بين ما سمعوه وما سيقرأونه تسلية أسبوعية. يضحك بائع الخضر في سره: كل من يشتري مجلة «المسيرة» إنما يتقدم بطلب انتساب سريّ إلى القوات اللبنانية. تمر السنوات و«المسيرة» هي نفسها «المسيرة». لا يهم تلك المجلة جذب إعلانات ولا تمويل رجال الأعمال أو غيره. يتابع قراؤها عن بعد ما تتكبده ناشرتها معنوياً ومالياً لتستمر في نشرها. يقول لنفسه فيفيان داغر كلما فكر بامرأة نذرت نفسها لقضية. كان يمكنها أن تكون في مكان آخر من دون شك، تسكن منزلاً آخر، تقود سيارة أخرى، وترتدي ثياباً أخرى، ولعلها تلألئ رقبتها على غرار «مناضلات» أخريات. بقيت فيفيان داغر محلها. مرّت أيام كانت «المسيرة» فيها إعلام الأحزاب المسيحية مجتمعة وبيانها السياسي وأمرها الحزبيّ اليوميّ. كأن «المسيرة» تلك القوات التي أنشئت كتجمع للأحزاب المسيحية دفاعاً عما افترضوه قضايا وجودية. وكطفل البقالة، لا يكاد يسمع نقداً جديّاً لجعجع حتى يهرع إلى كشك الصحف عند ساحة ساسين ليسمع وجهة نظر «الحكيم». ولا يكاد يشتريها مرتين أو ثلاثاً حتى ينشأ بينه وبين بائع الصحف تواطؤ، كأنه كشف سر انتمائك إلى الحزب المحظور. بقيت فيفيان داغر صليبا تكذبهم جميعاً، تصر: سمير جعجع مناضل، سمير جعجع مظلوم، سمير جعجع ضحية، سمير جعجع القرار المسيحي الحر، سمير جعجع لم يقتل، سمير جعجع لم يسرق، سمير جعجع صاحب مشروع، سمير جعجع مؤتمن على قضية.
واصلت تلك السيدة إقناع من يعنيهم ومن لا يعنيهم بما سبق، حتى 29 آذار الماضي. وكأنها محت في مقال واحد كل ما سبق وكتبته. حتى كتابتها «بخاطركم» الوداعية بقيت رسالة جعجع لها: «اسمحي لنا بالمجلة والله معك. خذي حقيبة يدك واعطينا المفتاح» سكيناً يغرز في قلبها وحدها. أجّلت إيلام من شبّوا على تصديقها. تختصر رسالتها الوداعية بزعل جعجع منها لتشكيكها مرة بصدق زوجته. ونتيجة زعله، قاطع «المسيرة» منذ خروجه من السجن وخاض الإجراءات القانونية لضمها إلى ممتلكاته. لا تروي فيفيان داغر صليبا كيف ضبطت انفعالاتها طوال السنوات القليلة الماضية واستمرت في الدفاع بلحمها وتقاعد زوجها عن أفكار جعجع وبذخه المعرابيّ ومواقفه لمجرد أنها قواتية ملتزمة وهو رئيس الحزب. وتزامناً مع انفجارها كان قائد القوات اللبنانية السابق فؤاد أبو ناضر ينفجر هو الآخر، وخلفهما كثيرون جداً ما عادوا يحتملون الكذب على أنفسهم.
في «بكم تستمر» تنقل رئيسة التحرير المستقيلة، «ليس تضامناً مع أحد ضد أحد أو تأييد أحد ضد أحد»، عن جعجع قوله غداة انتفاضة 12 آذار 1985: «عندما تصير أكثرية المحازبين على ثوابتها، خارج الإطار الحزبي، يصير الحزب معها حيث هي»!
غ. س

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي