قبل أسابيع كان شاب مغترب من أبناء الضنية في زيارة سياحية لمدينة بعلبك، عندما قرّر العودة إلى بلدته مساءً عبر الهرمل. بوصوله إلى حاجز حربتا، عند منتصف الطريق بين المدينتين، أوقفه عناصر الجيش ودقّقوا طويلاً في أوراقه. وبعدما تأكّدوا من عدم وجود شبهات حوله، طلب منه المسؤول عن الحاجز العودة إلى الضنية عن طريق بيروت، علماً أن أقلّ من ساعة كان يفصله عن الوصول إلى مقصده. اتّصل الشاب بنائب شمالي، فأجرى الأخير اتصالاً بزميل له بقاعي، وبعد تواصل مع الجيش ومخابراته استغرق وقتاً، عاود النائب الشمالي الاتصال بالشاب ليبشّره بنجاح «المساعي» والسماح له بالمرور، إلا أن الأخير كان قد وصل إلى بيروت في طريقه إلى الضنية.حاجز حربتا الذي يُطلق عليه أهل البقاع الشمالي «المعبر» ليس حاجزاً عادياً. هو، بالفعل، أشبه بمعبر بين الجمهورية اللبنانية و«جمهورية» البقاع الشمالي: تدقيق وإجراءات مشدّدة وعسكريون بعضهم مقنّعون، وازدحام شديد في كثير من الأحيان يهدر فيه الأهالي وقود سياراتهم، محاولين تفهّم أنهم على أعتاب منطقة حدودية، وأن الجيش يقوم بواجبه في ضبط المهرّبين...
ليل السبت - الأحد الماضي، وفي بلدة العين على بُعد كيلومترات قليلة من الحاجز التابع للواء المشاة التاسع (بقيادة العميد الركن كمال نهرا)، أطلق عناصر من قوة تابعة للواء نفسه (تُعرف بين السكان بـKRF) النار على سيارة قالت قيادة الجيش في بيانها إن سائقها لم يمتثل لحاجز «ظرفي»، ما أدّى إلى مقتل شاب من آل رباح من بلدة اللبوة حيث مقر قيادة اللواء. لمن لا يعرف الـ KRF، فإن عناصر هذه القوة عادة ملثّمون، يتنقّلون بدرّاجات نارية، ويقيمون حواجز «طيّارة». أما لمن يعرف منطقة البقاع الشمالي جيداً، فإن من الخطر، خصوصاً أثناء الليل، أن تمتثل لملثّمين مسلحين يستقلّون درّاجات نارية. ولأن الخطأ قد يقع، يجري عادة الاعتماد على حكمة «القائد» (وهو هنا قائد اللواء) وحنكته، في امتصاص غضب أهالي اللبوة الذين اعتصموا الأحد الماضي أمام مقر قيادة اللواء في بلدتهم احتجاجاً على مقتل الشاب. غير أن «حكمة» قائد اللواء و«حنكته» ألهمتاه إنزال مئات العسكريين لتفريق عشرات المحتجّين، وبينهم نسوة وأطفال، بإطلاق النار، ما أدّى إلى إصابة اثنين منهم، قبل أن يعيد فتح الطريق عنوةً، ويتسبّب بخضّة في وقت كان الرئيس السابق ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل على وشك سلوك هذا الطريق عائدَيْن من جولة في البقاع الشمالي.
المؤكّد أن واجب الجيش التدقيق والتشدّد في منطقة حدودية كالبقاع الشمالي، لولا «ملاحظتان» فقط:
- أن يد الجيش غالباً لا تكون «مالحة» إلا في هذه المنطقة، ربّما لأن «جسمها لبّيس». فقبل أسبوعين، قتل عناصر من قوة الـ KRF نفسها مزارعاً من بلدة الخريبة أثناء عودته من سهل مجدلون بالحجّة نفسها: عدم الامتثال لحاجز «ظرفي».
- رغم الإجراءات المشدّدة، يمر عبر حاجز حربتا، ذهاباً وإياباً، وبـ«قدرة قادر»، كل ما يمكن أن يُهرّب: نازحون وشاحنات وبضائع من كل ما يخطر على بال.
توصيف الحاجز بأنه «معبر» لا مبالغة فيه، ويمكن أن يزاد عليه أن ما قبل هذا «المعبر» ليس كما بعده. صحيح أن فلتان السلاح وانتشار التهريب وعصابات السلب والسطو، كلّ ذلك بات، في عُرف كثيرين، «عادة» بقاعية فقط، رغم أنها «تقليد» لبناني «أصيل» في كل المناطق، غير أن الجيش تمكّن في الأشهر القليلة الماضية من ضبط الوضع الأمني إلى حدّ كبير في المنطقة الممتدّة من رياق إلى حربتا مروراً ببعلبك، ولم يتردّد في دهم معاقل المهرّبين وملاحقة عُتاتهم. أما ما بعد حربتا فأمر آخر، أو ربّما «جمهورية» أخرى. وليس الأمر، كما قد يتبادر إلى الذهن، متعلّقاً بكون المنطقة تُعدّ معقلاً لحزب الله يُمنع على الجيش التحرّك فيها. فلمن لا يعرف البقاع الشمالي، أيضاً، وعلى مسافة 30 كيلومتراً من «معبر» حربتا إلى قلب مدينة الهرمل، هناك حاجزان ثابتان للجيش عند مفرق القاع - الهرمل وعلى نهر العاصي، إضافة إلى مقر اللواء التاسع في اللبوة، وقيادة فوج الحدود البرية الثاني في رأس بعلبك، وثكنة الجيش في الهرمل، وأبراج مراقبة بناها البريطانيون للجيش، فضلاً عن دوريات للمخابرات وشعبة المعلومات التابعة لقوى الأمن الداخلي تجوب هذه المنطقة، ما يجعل منها منطقة عسكرية بامتياز.
رغم ذلك كلّه، تشهد هذه المنطقة تهريباً ممنهجاً للنازحين السوريين وانتشار عمليات التهريب من سوريا وإليها من دون أن يوقف مهرّب واحد، وفلتاناً متزايداً وانتشار عمليات السطو المسلّح في وضح النهار من دون أن يوقف أيّ من الفاعلين، رغم أن هؤلاء معروفون بالأسماء وأماكن السكن ويتجوّلون بأريحية تامة. الأسوأ أن سكان هذه المناطق باتوا يوسّطون المطلوبين وكبار المهرّبين الذين «يفكّون مشانيق» بسبب علاقاتهم مع بعض ضباط مخابرات الجيش وبعض قادة الألوية. والأمثلة كثيرة. قبل شهور، تعرّض أحد عناصر قوى الأمن الداخلي لاعتداء في الهرمل وسُلب منه مسدّسه الأميري. نجحت مخابرات الجيش في استعادة المسدّس، فيما لم تنجح في توقيف أحد!
رغم الإجراءات المشدّدة، يمر عبر حاجز حربتا، ذهاباً وإياباً، وبـ«قدرة قادر»، كل ما يمكن أن يُهرّب


ما بعد «معبر» حربتا الأمور أسوأ بما لا يقاس مما هي قبله. لكنّ الأسوأ من هذا وذاك هو ما يحدث على المعبر نفسه. الأمثلة التي يوردها أهالي البقاع الشمالي كثيرة أيضاً، ومدعّمة بالأسماء والتواريخ. في 24 آب الماضي، قطع مزارعو سهل القاع ومخاتير وفاعليات الطريق الدولية المؤدّية إلى حمص ومعبر جوسية، احتجاجاً على تهريب العنب والفليفلة والبندورة والباذنجان والخيار من سوريا إلى الأراضي اللبنانية من المعابر الشرعية وغير الشرعية. هذه المنتجات تمرّ بـ «معبر» حربتا، رغم التدابير المشدّدة، إلى بقية أراضي الجمهورية اللبنانية. في المقابل، يصادر عناصر الحاجز في كثير من الأحيان شاحنات من الخُضر لمزارعين محليين بحجّة نقص الأوراق، ولا تنفع تدخّلات الفعاليات المحلية في الإفراج عنها إلا في ما ندر. يتفهّم الأهالي أن يصادر عناصر «المعبر»، مثلاً، شاحنات الحطب، لكنهم لا يفهمون كيف يُسمح لتاجر حطب واحد أن يمرّر شاحناته بسلاسة. يتفهّمون أن يصادر الحاجز حمولات سيارات من الدخان المهرّب، ولا يفهمون كيف يُفتح الحاجز لساعات معيّنة لتمرير كميونات تنقل الدخان المهرّب من دون أن تُسأل عمّا تحمله. يتفهّمون أن توقف دورية من اللواء التاسع في بلدة النبي عثمان، في السادس من أيلول الماضي، ح. س. بسبب إطلاقه النار من سلاح حربي من نوع «زغاروف» واقتياده إلى قيادة اللواء، ولا يفهمون كيف يُطلق سراحه فوراً بعدما «أهدى» البندقية التي يُقدّر سعرها بنحو ثلاثة آلاف دولار إلى أحد كبار ضباط اللواء. يفهمون أن على من يرغب منهم بتركيب «الفيميه» أن يحوز رخصة وفقاً للقانون، ولا يفهمون لماذا على من يحمل الرخصة أن يحصل على إذن خاص إضافي من قائد اللواء يناله «المحظيون» فقط. يفهمون أن يدهم عناصر المخابرات منازل مطلوبين، ولا يتفهّمون لماذا يحطّم هؤلاء أثاث هذه المنازل ويسرقون ما يسهل يحمله. يتفهّمون أن واجب العسكري أو الحاجز الظرفي إيقاف السيارات المشبوهة، ولا يفهمون لماذا تُطلق النار للقتل في حال عدم «الامتثال»، أو بالأحرى عدم الانتباه.
أسئلة كثيرة يثيرها أهالي المنطقة أيضاً حول مصير المصادرات التي تتم على حاجز حربتا، وهل تُسجّل وتُبلّغ بها القيادة ويتم التصرّف بها وفق الأصول والقوانين؟ وهي أسئلة مشروعة طالما أن الدرّاجة النارية التي تُصادر يمكن استعادتها أو حتى شراؤها بـ 100 دولار، وطالما أن شاحنة «انفرتيرات» (لنظام الطاقة الشمسية) صودرت أخيراً على الحاجز، قبل أن يبيع أحدهم الحمولة بـ 100 دولار للـ«انفرتير» الذي يتجاوز سعره الـ 400 دولار! هذه الأسئلة، والإيحاءات بـ«التعفيش»، وغيرها الكثير من الاتهامات ضد ضباط رفيعين في اللواء التاسع وفي المخابرات في البقاع الشمالي، يتناقلها كلّ من يسكن «ما بعد المعبر»، وهي برسم قائد الجيش العماد جوزف عون الذي يُعدّ بعض المعنيين من الضباط «ودائعه» في المنطقة، وبعدما وصلته احتجاجات ومطالب من فعّاليات حزبية وشعبية بضرورة إجراء مناقلات سريعة، وبضرورة التوقف عن اعتبار منطقة البقاع الشمالي الحدودية دجاجة تبيض ذهباً، لضباط يطمحون للخدمة فيها، لتأمين مستقبلهم «لولد الولد». مشكلة البقاع الشمالي ليست في غياب الدولة على ما يعتقد كثيرون، فهذه، بأجهزتها الأمنية المختلفة، موجودة بكثافة. غياب القرار السياسي بفرض الأمن هو ما يترك تلك المنطقة فريسة لاستباحة بضع عشرات من «الزعران». وغياب القرار العسكري بمحاسبة ضباط فاسدين وتعيين أكفاء يضفي على الفلتان القائم فيها تفلّتاً يرعاه «زعران» تزيّن أكتافهم سيوفٌ ونجوم.