كثيراً ما يتبدّى أن الأحزاب و التيارات السياسية، التي تطفو على سطح المجتمعات، هي التي تلعب الدور الأساسي في تحريك هذه الأخيرة، وصولاً إلى إحداث انحراف في وعيها، بما يؤسّس لمزاج عام غالباً ما يكون ذا فاعلية مهمّة في رسم القرارات والتوجّهات لدى حكوماتها، بدرجات تختلف تبعاً لـ«المشروعية» التي تقوم عليها هذه الأخيرة، وأيضاً للسبل والطرائق التي أوصلتها إلى سدة السلطة في بلدانها. لكن الثقافة، بما هي وعاء ضام لرزمة الأفكار والمفاهيم والقيم والمبادئ، هي التي تمثّل خلفية المشهد الأعمق، ومحور التحوّلات الأهم التي تتفوّق على ما تقذف به منتوجات الأحزاب وأيديولوجياتها وخطوطها السياسية التي غالباً ما تكون رهينة المصالح، وبعيدة أحياناً عمّا يضمه وعاء الثقافة آنف الذكر. وبهذا المعنى، يمكن القول إن الحَراك النابع من «الوعاء» غالباً ما يكون ذا تأثيرات أكثر فاعلية عن نظيره الآتي من «السطح» بما لا يقاس.يشكّل حَراك الجامعات الأميركية الناصر لفلسطين، والبادئ في شهر تشرين الثاني الماضي في جامعة كاليفورنيا، والمتدحرج بسرعات راحت تتزايد منذ شهر آذار المنصرم، فعلاً يطول «الوعاء» البعيد عن «السطح» صاحب الحسابات. ومع ظهور بوادر لخروج الأمور عن السيطرة منذ 18 نيسان الجاري فصاعداً، صار المشهد ينذر بحدوث حال من الاستقطاب داخل كيان لا ينقصه الكثير في هذا السياق، حتى لتشير الكثير من النبوءات والقراءات إلى إمكان ولوج البلاد في صراع حاد على الخيارات، تتراكم شروطه على وقع عدد من التناقضات التي تخص الداخل الأميركي والخارج الذي تصارع فيه أميركا لمد عمر استحواذها على التأثير الأكبر فيه.
لم يكن مفاجئاً أن تتّخذ جامعة كاليفورنيا وضعية «منبع النار»، إذ دائماً ما شهد تاريخها محطات كبرى تندرج في السياق عينه، بدءاً من محطة 1968 التي سجلت تظاهراتها الحاصلة وقتها احتجاجاً على الروابط القائمة بين الجامعة وبين وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بشأن التسليح، ما يشكل داعماً لمشاركة الولايات المتحدة في الحرب على فيتنام، ثم مروراً بمحطة عام 1985 التي شهدت عصياناً داخل حرم الجامعة احتجاجاً على علاقات الأخيرة مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا (الأبارتهايد). وكلا الفعلين كان ذا دلالة تقول إن هذا النسيج عصي على «الترويض» و«القولبة» اللتين تندرجان في صلب المهمات التي تضطلع بها الأحزاب والتيارات وهياكل السلطة، وعصي أيضاً على «التجنيد» الذي ترتسم ملامحه وحدوده، عبر تسويق المفاهيم والمصطلحات الواقعة على الحدود بين «المحرمات» وبين ثوابت السياسة المرتسمة في ردهات غرف صناعة القرار. وثالث المحطات، في نيسان الجاري، حيث راح الفعل يهدّد بتهتّك نسيج المحرمات الذي خاطته أيديولوجيا «المحرقة» النازية التي أفرزت مفهوماً اسمه «معاداة السامية»، يودي بـ«المتهم» نحو مسالك لا تُحمد عقباها. ولربما كان ذلك هو ما يفسر السلوك الذي ذهبت إليه نعمت شفيق، رئيسة جامعة كولومبيا، يوم الثامن عشر من نيسان، عندما استدعت شرطة ولاية نيويورك إلى حرم جامعتها الذي يشهد موجة احتجاجات ترمي إلى تمزيق ذلك النسيج، غير عابئة بالمسالك وما يمكن أن تؤدّي إليه. ولربما كانت السيرة الذاتية لهذه الأخيرة تفسّر أيضاً بعض جوانب سلوكها. فالسيدة «مينوش»، المولودة في الإسكندرية عام 1962، غادرتها وعائلتها، وهي بعمر أربع سنوات، لأن «هواءاتها» الناصرية لم تكن مناسبة لهم، بدليل عودتهم، عندما حلّت نظيرتها «الساداتية» كبديل في الفضاء المصري، لتنال «مينوش» شهادتها الثانوية من وطنها الأم، مصر، قبل أن تغادر إلى فضاءات أرحب، حاملة معها «إرث» الأخيرة الذي علّمها أن ما قامت به حركة «حماس» في غزة هو نشر للفوضى على أقل تقدير، وأن مؤيدي الفعل يتّسمون بتلك الصفة من دون جدال.
ما يشي به حراك الجامعات الأميركية كثير، ولكن الأهم منه هو أن الأذرع الحاملة للرايات، التي يجري تناقلها من جيل إلى جيل، عازمة على ألا تسقط قبل أن تترك بصمتها في السياقات التي رُفعت من أجلها، الأمر الذي تحقّق في فيتنام عام 1974 وفي جنوب أفريقيا عام 1994، عندما جاءت الخلاصات لتثبت أن أولئك الطلبة هم الذين يحملون «جينات» الحضارة الغربية، وهم الذين يمثّلون عمقها الحقيقي، وأن هذا السطح السياسي، المتبنّي لكل هذه «الهرطقات» الخادمة لمشروعه، ليس أكثر من «أوليغارشية» بنت أفكارها على أساس قوامه التخادم ما بين «المركز» و«الأطراف» استمراراً لبسط نفوذ الأول وهيمنته على عالم بات اليوم بحال من التململ، بما ينبئ بأن «المخاض» على وشك أن يضع حمولاته عما قريب.
ثمة أمر آخر يشي به هذا الحَراك الأخير هو أنه تزامن في صعوده الصاروخي مع حال من «الموات» الذي يشهده «وعاؤنا» نحن؛ فجامعات القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت، التي كانت تصطلي لهباً عند مفترقات أدنى بكثير من «مفترق» غزة، راحت ترقب ما يجري في «كاليفورنيا» و«كولومبيا» و«ييل» بصمت، لربما يشير إلى أنها ارتضت أن تكون خارج مدارات حدث هو الأهم الذي تمر به المنطقة منذ 14 أيار 1948.