يتجاوز استهداف جيش العدو مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، والذي أدّى إلى استشهاد قائد الحرس الثوري في سوريا ولبنان، العميد محمد رضا زاهدي، ونائبه وغيرهما من القادة والضباط، مجرّد كونه رداً على حدث مُحدَّد، حتى لو تم ربطه من حيث التوقيت بالهجوم بطائرة مُسيّرة، طاولت القاعدة البحرية الإسرائيلية في إيلات قبل أيام. فقرار استهداف القنصلية ينطوي على أبعاد استراتيجية تتصل بأكثر من سياق وعنوان، ويمثّل ارتقاء نوعياً في الرسائل والضغوط التي ينتهجها العدو، وتهدف إلى تأسيس معادلة رد وردع يراهن الاحتلال على توظيفها في أكثر من مسار.تنظر إسرائيل إلى استهداف القيادات الإيرانية ومصالح طهران في الخارج، على أنه جزء من إستراتيجيتها في مواجهة محور المقاومة. وهو خيار سبق أن تمّ طرحه في أكثر من مناسبة، ودعت إليه أكثر من شخصية سياسية ومهنية إسرائيلية في محطات سابقة باعتباره «أكثر نجاعة». ولذلك، عقَّب رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، اللواء تامير هايمن، بالقول: «أخيراً، نرى دفع ثمن مباشر من الإيرانيين على ما يفعلونه (ضد إسرائيل) من وراء الكواليس»، في ما يشير إلى أن هذا الخيار كان مطروحاً، ولكن تم تجنّبه طوال عقود من المواجهة، نتيجة مخاطره التي يمكن أن تمتد إلى الإقليم، إضافة إلى كونه يحتاج إلى تبنّ مباشر من جانب أميركا التي تحكمها اعتبارات أوسع في تقديرها للمصالح والمخاطر.
في الدوافع أيضاً، إلى جانب دور إيران الرئيسي في تطوّر قدرات محور المقاومة والتي تهدّد عمق الكيان الإستراتيجي، ترى إسرائيل أن كل ما تواجهه منذ عملية «طوفان الأقصى»، كان لإيران دور فيه، من خلال تمكين قوى المقاومة بالقدرات والخبرات، بدءاً بحركة «حماس» في غزة، مروراً بـ«حزب الله» في لبنان، ووصولاً إلى اليمن، وهو ما لمّح إليه وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، غداة استهداف القنصلية، حين قال أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست إن «هدفنا العمل في كل مكان، كل يوم، لمنع تعاظم قدرات أعدائنا، ولنوضح لكل من يعمل ضدنا في جميع أنحاء الشرق الأوسط أن ثمن العمليات ضد إسرائيل سيكون باهظاً». وفي السياق نفسه، كان كلام الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، دانيال هاغاري، في مقابلة مع شبكة «سي إن إن»، عن أنه في «الأشهر الستة الأخيرة، كانت إيران تجرّ المنطقة إلى تصعيد، فهي اللاعب المركزي وتستخدم مبعوثيها في لبنان وسوريا والعراق واليمن» ضد إسرائيل، في إشارة إلى أن استهدافها يأتي ضمن استراتيجية الرد التي تنتهجها تل أبيب.
برزت دعوات إسرائيلية إلى عدم الاستخفاف بقدرات طهران على الرد والإيلام


من المُسلَّم به أن استهداف القنصلية، سبقه تقدير وضع تمّت خلاله دراسة مخاطر استمرار الوضع الراهن، والخيارات الواجب اتّباعها إزاء ذلك. ومن الواضح أنه حضرت لدى مؤسسات التقدير والقرار السياسي والأمني، حقيقة استنفاد المسارات السياسية و»التهويلية» والعملياتية التي لم تحقّق النتائج المرجوة في إسكات الجبهات أو تراجع الضغط الميداني، من الحدود اللبنانية حتى البحر الأحمر. وفي هذا الإطار، لم ينجح ارتقاء ردود إسرائيل العدوانية المضبوطة ضد «حزب الله» وصولاً إلى عمق البقاع، والتي أعقبتها ردود مدروسة من «حزب الله» بردود أيضاً، وبتصميم على مواصلة العمليات، في ردع الحزب.
ومن هنا، يبدو أن قرار استهداف القنصلية وقادة الحرس، يستهدف ما يلي:
- الرد على ما تعرّضت له إسرائيل حتى الآن خلال الأشهر الماضية، من خلال استهداف إيران باعتبارها القوة الإقليمية التي مكَّنت قوى المقاومة بالقدرات التي تستخدمها ضد الكيان، بما فيها حركة «حماس».
- إدخال إيران ضمن معادلة الرد، من بوابة جبي الثمن، وهو أمر لفت إليه أيضاً بشكل صريح قائد سلاح البحرية الإسرائيلي السابق، اللواء أليعازر (تشيني) ميروم، بقوله: «أنتم لا يمكنكم أن تجلسوا جانباً وتعطوا الأوامر وتدعموا المنظمات الوكيلة وتظلّوا آمنين... ونحن قلنا للإيرانيين أنتم جزء من اللعبة، وعند الحاجة سنقوم بمعالجتكم».
- توجيه رسالة إلى إيران بالدم والنار، بأن توسيع نطاق المواجهة ضد إسرائيل سيؤدي إلى توسيع الردود بما يتجاوز حلفاءها ويطاول قياداتها ومصالحها وسيادتها أيضاً.
- توجيه رسالة عملياتية إلى محور المقاومة بأن إسرائيل مستعدّة للذهاب بعيداً في ردودها العملياتية، وإلى مستويات محفوفة بمخاطر التدحرج إلى حرب كبرى في المنطقة، بهدف تعزيز صورتها المتوثّبة والمندفعة من دون قيود، على أمل أن يساهم ذلك في تغيير المعادلة الميدانية القائمة.
ولا يُستبعد أن تكون قيادة العدو انطلقت من تقدير بأن هناك مجموعة قيود عملياتية تحول دون رد إيران على إسرائيل، حتى لو كانت تملك القدرة عليه. وتفصيل ذلك، أن استهداف الكيان انطلاقاً من الجمهورية الإسلامية، هو رد غير تناسبي، خاصة أن إسرائيل لم تستهدف إيران في أراضيها مباشرة، بما يمكن أن يؤدي إلى نشوب حرب كبرى في المنطقة. كما أن هناك قيوداً على تنفيذ ردود من أراضي حلفاء طهران، وفق ما تفترض تل أبيب. مع هذا، حذَّرت المسؤولة السابقة للملف الإيراني في «الموساد»، سيما شاين، من أن إيران إذا ما قرّرت الرد على اسرائيل فهي قادرة على ذلك، وعدّدت مجموعة وسائل في هذا الإطار. ودعت إلى عدم التشكيك في قدرات إيران، قائلة: «لقد رأينا ما فعلوه لنا في الماضي، وعلينا أن لا نستخفّ بقدرتهم على الرد، فلديهم القدرة والحافزية، حتى وإن كان توجد قيود هنا أو هناك. فلا أقترح الاستخفاف بقدرتهم على الإيلام والقيام بردّ كبير».