الدوافع السياسية للتهم الغربية والإسرائيلية الموجّهة إلى إيران حول وقوفها خلف قيام الأطراف غير الدولتية في محور المقاومة بالتضامن العملي مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لحرب إبادة في غزة، بديهية. هدفها ببساطة نزع الصفة الوطنية عن هذه الأطراف واتهامها بكونها «مجرّد أذرع لإيران» ولمشروعها على مستوى الإقليم. لكنّ خلفيات أيديولوجية تضاف إلى تلك السياسية، ترتبط، وفقاً لبرتران بديع، عالم السياسة الفرنسي ذي الأصول الإيرانية، بطغيان منظور تجاوزه الزمن للعلاقات الدولية في أذهان النخب الغربية والإسرائيلية، يرى في الدولة لاعباً مركزياً شبه حصري على الصعيد العالمي، ويغفل تنامي الدور الفاعل والمؤثّر للمجتمعات وقواها الحية، إن لم يتعامَ عمداً عنه. وبطبيعة الحال، فإن السياسات التي لا تأخذ في الاعتبار الاتجاهات الوازنة والوقائع الصلبة، وإن كانت مستجدّة، مآلها الفشل مهما كانت القدرات العسكرية والاقتصادية لأصحابها. ولبديع، الذي كان قبل تقاعده أحد أركان «معهد العلوم السياسية» في باريس، الكثير من المؤلّفات، بينها «الدولة المستوردة»، و«لم نعد وحدنا في العالم»، و«تفاعل المجتمعات: العالم لم يعد جيوسياسياً»، وهو يشرف سنوياً مع دومينيك فيدال على إصدار تقرير «حال العالم». يقدّم بديع لـ«الأخبار» قراءته لمحورية دور الديناميات الاجتماعية الفلسطينية والعربية والعالمية في مقابل منظومة السيطرة الأميركية والإسرائيلية، المتراجعة رغم شراستها المنقطعة النظير.


تتباين التحليلات حيال المجابهة المتعدّدة الأبعاد والساحات، والمتجهة نحو الاحتدام في منطقة الشرق الأوسط منذ عملية «طوفان الأقصى»، إلى حدّ التناقض، بين من يغلّب مركزية دور اللاعبين الدولتيين فيها، ومن يرى أن ديناميات اجتماعية عميقة، تعبّر عنها حركات مقاومة شعبية، هي التي تفسرها أساساً. كنتم بين أوائل المفكّرين الذين لفتوا مع بداية القرن الـ21 إلى أن إسهام الديناميات الاجتماعية في إعادة صياغة المشهد السياسي على المستويات المحلية والإقليمية والدولية سيطغى على المدييْن المتوسط والطويل، على إسهام الدول، إلى درجة استنتاجكم بأننا نشهد نهاية عصر الجيوبوليتيك. ما هو برأيكم العامل الحاسم في صناعة الأحداث التي تعصف بمنطقتنا منذ الـ7 من تشرين الأول الماضي؟
- ما زالت عدّة تحليلات أسيرة للنظريات الجيوسياسية القديمة، المستندة في معظمها إلى وقائع القرن الـ19، والتي تفترض أن المتغيّرات الدولية هي ترجمة لإرادة صنّاع قرار استراتيجيين أو أمراء ودبلوماسيين وعسكريين. هي تتجاهل الحقائق المستجدّة في القرن الـ21، وأهمها أن المجتمعات باتت مطّلعة على التحديات الدولية الكبرى، ومعنيّة بها ومتفاعلة معها، من جهة، وأن جذور النزاعات المتأجّجة لا ترتبط بـ«لعبة أمم»، بل بديناميات اجتماعية عميقة، من جهة أخرى. ما يجري في الشرق الأوسط هو أولاً نتاج لـ75 سنة من الاضطهاد والإذلال والاحتلال بحق الشعب الفلسطيني. علينا اعتماد مقاربة نقيضة لتلك السائدة، وفحواها أن من يصنع الأحداث ليس المنظمات أو الدول أولاً، بل الضغوط القوية التي تمارسها المجتمعات، والتي تفضي، في ظروف انسداد كامل للآفاق السياسية كذلك الذي نعرفه في الشرق الأوسط، إلى اتّباع خيارات جذرية، مع ما يترتب عليها من عنف واستعار للصراع. أصبحنا نعرف اليوم أن إيران وحزب الله لم يكونا على علم مسبق بما حصل في الـ7 من تشرين الأول، وأن أحد الأسباب التي دفعت «حماس» إلى القيام بعمليتها كان الحؤول دون تراجع شعبيتها في غزة، وهي نجحت في ذلك وفي تجديد مشروعيتها، لأن غالبية وازنة من الفلسطينيين رأت أن ما فعلته أصبح الأسلوب الوحيد الفاعل لمقاومة إسرائيل. المنطق الإسرائيلي المقابل تلخّص باللجوء الحصري إلى القوة العارية والمنفلتة من عقالها، وشنّ حرب كولونيالية بكل ما للكلمة من معنى.

لقد قارنتم في إحدى مداخلاتكم الأخيرة بين الحرب على غزة والحروب الكولونيالية في الجزائر وفيتنام. هل من الممكن توضيح ما يترتّب على مثل هذه المقارنة بالنسبة إلى المواجهة الدائرة وإلى مآلاتها المحتملة؟
- المحيّر في ما يتعلق بهذه المسألة هو ما يظهر من جهل لدى الاستراتيجيين الإسرائيليين بالتاريخ العالمي منذ عام 1945. لم تؤدِّ أي حرب لامتوازية بين دولة استعمارية ومقاتلين يعبّرون عن تطلّع مجتمعات إلى الخلاص من نير الاحتلال والسيطرة الاستعمارية، إلى انتصار الأولى في المحصّلة النهائية. في عام 1957، وللرد على عمليات «جبهة التحرير الوطني»، باشر الجيش الفرنسي «معركة الجزائر العاصمة» المعروفة، واعتقل 25000 جزائري، ولكنّ فرنسا اضطرت بعد 3 سنوات للتفاوض مع نفس هذه الجبهة لمنح الجزائر الاستقلال. المدافع قد تنفع في مقابل المدافع إن صحّ التعبير، لكنها عديمة الجدوى ضد مجتمعات معبّأة ومستعدّة للتضحية للتحرر من الاستعمار وما فرضه عليها من واقع مرير. المعطيات تفيد بأن نسبة تزيد على الـ1% من سكان غزة قُتلوا بالقصف الإسرائيلي. هذا يعني في دولة مثل فرنسا مثلاً مقتل مليون شخص. وما يزيد من مأساوية هذا المشهد هو مسؤولية الولايات المتحدة عن هذه المقتلة لأنها نُفذت بالأسلحة والذخائر التي ترسلها إلى إسرائيل.

ما هو مستقبل النظام الليبرالي الدولي وصدقيّته بعد انكشاف المساهمة المباشرة السياسية والميدانية لأبرز أقطابه في مذبحة غزة؟
- هناك حالياً تطوران رئيسيّان بالنسبة إلى تاريخ العلاقات الدولية. الأول هو تفاعل مجتمعات الشرق الأوسط، وبقية مجتمعات العالم، مع ما يجري على مرأى ومسمع منها، بفعل ثورة الاتصالات، على عكس الماضي، عندما كانت الأغلبيات الوازنة تجهل ما يحصل في «بلدان بعيدة». الرأي العام أصبح حاضراً بقوة، وعلى الرغم من محاولة وسائل الإعلام الغربية التغاضي عن المجازر والدمار في غزة، وإيجاد المبررات للعدوان الإسرائيلي، فإننا نشهد تحوّلاً عميقاً في أوساطه لصالح القضية الفلسطينية، خاصة في الولايات المتحدة، وتحديداً بين فئة الشباب، ستكون له مفاعيل حاسمة على المدييْن المتوسط والطويل على الأوضاع في الشرق الأوسط. إسرائيل تخسر معركة الرأي العام، والتطور الثاني متصل بهذا الواقع، وهو التجرؤ على تناول موضوعات كان من المستحيل التطرق إليها في الماضي، كمخاطر تعرض الفلسطينيين للإبادة على سبيل المثال. صحيح أن قرار «محكمة العدل الدولية» حول غزة لم يكن بالقوة المطلوبة، لكن لا بد من الالتفات إلى أنها أقرّت بوجود مثل هذه المخاطر على الشعب الفلسطيني، وهو تقدّم هام يمثل صفعة كبيرة للدبلوماسية الأميركية.

يحرص المسؤولون الأميركيون، ووسائل الإعلام المتناغمة معهم، على تنظيم تسريبات منتظمة، وتحليلات متواترة، عن خلافات متصاعدة بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو. وقد تكون بالفعل مثل هذه الخلافات موجودة إلى حد ما، ولكن ما هو تفسيركم لعدم قدرة واشنطن على ممارسة ضغوط جدية عليها لحملها على تعديل سياساتها؟
- دخلنا في زمن تتلاشى فيه التحالفات تدريجياً لصالح سيولة شديدة تسم الواقع العالمي. أضحى الحليف الذي يحظى بالحماية، أو «الوكيل»، يتمتع بهامش استقلالية حيال «الأصيل» لم يُعرف مثله في السابق. يتجاهل محمد بن سلمان مثلاً الضغوط الأميركية الهادفة إلى حمله على تغيير سياسته في ميدان الطاقة. ويتغاضى نتنياهو عن «نصائح الاعتدال» الموجّهة إليه من البيت الأبيض، فيجد الأخير نفسه مضطراً إلى السير خلف حليفه الإسرائيلي وتغطية جموحه، عبر مدّه بالسلاح والذخيرة، واستخدام حق «الفيتو» لمنع وقف إطلاق النار في غزة. ويشكل مثل هذا الانقياد خلف الحكومة الإسرائيلية الراهنة إهانة كبرى للدبلوماسية الأميركية على الصعيد الدولي، لأنه يتعارض مع خطابها المعلن عن حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية التي تتغنّى بها باستمرار.

كيف تقيّمون مبادرة جنوب أفريقيا إلى رفع دعوى على إسرائيل أمام «محكمة العدل الدولية» بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية؟ ألا تشكل سابقة تؤشر إلى مشاركة متنامية لبلدان «الجنوب العالمي» في السعي لإعادة صياغة الواقع الدولي لصالح شعوبها وتطلعاتها إلى الاستقلال والعدالة؟
- تندرج هذه المبادرة في إطار ما أسميه بالعلاقات الدولية الجديدة، والتي تميل، بدلاً من اللجوء إلى الأدوات التقليدية، كالأداة العسكرية، أو الدبلوماسية، عبر شبكات التحالفات، إلى التوجه مباشرة إلى الرأي العام العالمي، وخلق الظروف المؤاتية التي تحدّ من قدرة الموارد العسكرية أو الدبلوماسية على التأثير الحاسم. لقد أدركت جنوب أفريقيا كيفية التدخل الفاعل في السياق الدولي الجديد. الجنوب العالمي ليس تكتلاً موحّداً ولا حلفاً عسكرياً مندمجاً كـ«الناتو»، ولكنه مجموعة من الدول التي تلعب دوراً متزايداً في داخل الحلبة الدولية بأساليب مستجدّة وتسهم في إعادة توزيع الأوراق، في مقابل عجز القوى الكبرى التقليدية وعدم فهمها لقواعد لعبة خرجت عن سيطرتها.

* عالم السياسة الفرنسي