تفاعلت في الآونة الأخيرة قضية توقيف النائب العام الاستئنافي في بعبدا أحد المحامين، بعدما نسب إليه ارتكاب جريمة مشهودة، ما أثار اعتراض نقابة المحامين في بيروت على تجاوز القضاء مسألة حصانة المحامي الإلزامية. ما هو مفهوم الجرم المشهود، وحالات توافره وأصول ملاحقة المحامي؟ بدايةً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ قانون تنظيم مهنة المحاماة يعدّ «قانوناً خاصاً»، وبالتالي فإنّه يجب تفسير القاضي له تفسيراً ضيّقاً (1). فقد نصت الفقرة الأولى من المادة 79 من قانون تنظيم مهنة المحاماة على ما يأتي: «باستثناء حالة الجرم المشهود، لا يستجوب محام عن جريمة منسوبة إليه قبل إبلاغ الأمر لنقيب المحامين، الذي يحق له حضور الاستجواب بنفسه أو بواسطة من ينتدبه من أعضاء مجلس النقابة». وقد ورد في الفقرة الثانية: «لا يجوز ملاحقة المحامي لفعل نشأ عن ممارسة المهنة أو بمعرضها إلا بقرار من مجلس النقابة بإذن بالملاحقة، ومجلس النقابة يقدّر ما إذا كان الفعل ناشئاً عن المهنة أو بمعرضها». واضح أنّ المشترع قرّر حصانة للمحامي تمثلت بعدم جواز استجوابه قبل إبلاغ الأمر، مسبقاً، لنقيب المحامين، باستثناء حالة الجرم المشهود، إذ يجوز استجوابه دون إبلاغ النقيب. كما أنّه، بموجب الفقرة الثانية، لا يجوز ملاحقة المحامي، أي تحريك الدعوى العامة بحقه، سواء كان الجرم مشهوداً أو لا، قبل الاستحصال على إذن مجلس النقابة. وقد عرّفت المادة 29 من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني، الجريمة المشهودة بما يأتي: «تعدّ الجريمة مشهودة: أ ــ الجريمة التي تشاهد عند وقوعها. ب ــ الجريمة التي يقبض على فاعلها أثناء أو فور ارتكابها. ج ــ الجريمة التي يلاحق فيها المشتبه فيه بناءً على صراخ الناس. د ــ الجريمة التي يتم اكتشافها فور الانتهاء من ارتكابها في وقت تدلّ آثارها عليها بكل وضوح. هـ ــ الجريمة التي يضبط فيها مع شخص أشياء أو أسلحة أو أوراق يستدل منها على أنه مرتكبها، وذلك في خلال الساعات الأربع والعشرين من وقوعها». وهذه الحالات وردت على سبيل الحصر، وبالتالي فلا يصح التشبيه بها أو القياس عليها وإضافة حالات جديدة (2). وبهذا؛ فإنّ معيار الجريمة المشهودة هو التقارب الزمني بين تاريخ وقوع الجريمة وتاريخ اكتشافها، وقد حدّده المشترع بمدّة أربع وعشرين ساعة من تاريخ وقوعها (3). فإذا لم يتمّ إلقاء القبض على المحامي أثناء أو فور ارتكابه الجريمة، أو لم يتمّ ملاحقته وضبطه بناءً على صراخ الناس، أو لم يتمّ اكتشاف الجريمة فور انتهائه من ارتكابها، أو لم يضبط معه أشياء أو أسلحة أو أوراق يستدل منها على أنه فاعل الجريمة، وذلك في خلال الأربع والعشرين ساعة من تاريخ وقوع الجرم، فتكون الحالة المشهودة قد انتهت (4). ويتعطل بالتالي الاستثناء المنصوص عليه في المادة 79 من قانون تنظيم مهنة المحاماة، ما يوجب الاستحصال على إذن بالملاحقة من مجلس النقابة (5). وإذا جاء قرار توقيف المحامي بعد أيام عدّة على انتهاء حالة الجرم المشهود يكون غير قانوني (6). أما إذا لوحق المحامي ضمن مدّة الأربع والعشرين ساعة، وبعد استجوابه، قرّر النائب العام تركه حراً وعدم توقيفه، فلا يصحّ ملاحقته مجدداً بالجرم ذاته وتوقيفه، دون الاستحصال على إذن بالملاحقة من نقابة المحامين، وذلك على اعتبار أنّ الجرم المشهود قد انتهى بمرور أربع وعشرين ساعة على ارتكابه (7). فمن المقرّر قانوناً أنّ إجراءات التحقيق في الجريمة المشهودة من الواجب متابعتها وأن تستمر دون انقطاع (8). وقاعدة الاستمرارية هي شرط جوهري وتتعلّق بالانتظام العام، وبالتالي لا يجوز للقاضي مخالفتها تحت طائلة البطلان (9). أما إذا انقطعت إجراءات التحقيق في الجرم المشهود فيؤدي ذلك إلى سقوط الحق في متابعتها، وزوال حالة الجرم المشهود، ويكون على القاضي وجوب الاستحصال على إذن مسبق من نقابة المحامين بملاحقة المحامي. كما أنّه لا يكفي لتتحقق إحدى حالات الجريمة المشهودة أن يعلم النائب العام أو الضابط العدلي بالجريمة عن طريق الرواية (10)، بل يجب أن يشاهد بنفسه الجريمة في إحدى حالاتها التي عدّدها نص القانون. أي أنّه يجب أن يشاهد الجريمة عند وقوعها فعلاً أو يكتشفها فور الانتهاء من ارتكابها في وقت تدلّ آثارها عليها بشكل واضح أو يكون شاهد المجني عليه أو عامة الناس وهم يلاحقون المشتبه فيه بالصياح في وقت قريب من وقوع الجريمة أو يكون شاهد شخصاً معه أشياء يستدل منها على أنّه مرتكبها، وذلك في خلال الأربع والعشرين ساعة من وقوعها (11). فإذا لم ينتقل (12) النائب العام إلى موقع ارتكاب الجناية، وتحقق من ارتكابها بنفسه وعاين آثارها فلا يمكن القول بقيام جريمة مشهودة ولا يغنيه عن ذلك تلقيه نبأ حصولها عن طريق شهادة الشهود (13). كما أنّ المشترع اشترط توافر أدلة وقرائن قوية (14) ضدّ المشتبه فيه تؤكد صحة ارتكابه الجرم. فالأدلة غير الكافية لا تصلح أساساً للقبض (15) ولا يكفي مجرّد التبليغ عن الجريمة والقول بأنّ فلاناً قد ارتكبها (16) أو وجود خلاف بينه وبين المجني عليه أو سبق ارتكابه لجريمة مماثلة (17).نختم بالقول إنّ أيّ قرار قضائي باستجواب محام أو بتوقيفه خارج حالات الجرم المشهود، يفرض لزاماً إبلاغ نقيب المحامين والاستحصال على إذن من مجلس النقابة بالملاحقة الذي أناط به القانون حق تقدير ما إذا كان الفعل المسند إلى المحامي ناشئاً عن المهنة أو بمعرضها (18)، وإنّ عدم تقيّد القضاء بهذه الأصول الإلزامية يجعل الملاحقة باطلة (19) ويشكل تصرّفه تعدّياً على دور مجلس النقابة ومسّاً بكرامة نقيب المحامين ورسالة المحامين المهنية (20).
هوامش
(1) المحامي الياس أبو عيد، المحامي حقوقه، أتعابه وواجباته، حصانته وضماناته، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2007، الجزء الأوّل، الصفحة 36.
(2) المحامي الياس أبو عيد، المحامي حقوقه، أتعابه وواجباته، حصانته وضماناته، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2007، الجزء الثاني، الصفحة 215: «والجدير بالذكر أنّ حالات الجريمة المشهودة قد وردت على سبيل الحصر».
(3) المحامي الياس أبو عيد، أصول المحاكمات الجزائية بين النص والاجتهاد والفقه، دراسة مقارنة، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت 2003، الجزء الثاني، الصفحة 143.
(4) فايز الإيعالي، قواعد الإجراءات الجزائية، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، الطبعة الأولى 1994، الصفحة 195.
(5) المحامي الياس أبو عيد، المحامي حقوقه، أتعابه وواجباته، حصانته وضماناته، الجزء الثاني، الصفحة 215.
(6) Cass. Crim. 11 février 1998‚ Bulletin des arrêts de la Cour de Cassation‚ 1998‚ page 149‚nº 55.
(7) قاضي التحقيق في بيروت رياض أبو غيدا، قرار تاريخ 21/1/2002، مجلة العدل 2002، العدد 1، الصفحة 281: «حيث يظهر من الوقائع المعروضة والأوراق المبرزة أنّ المدعى عليه ... هو محام منتسب إلى نقابة المحامين في بيروت ... وحيث إنه، إذا كانت ملاحقته أمام القضاء العسكري قد تمّت ضمن الحالة المشهودة بالجرم، فإنّ هذه الحالة قد انتهت بمرور أربع وعشرين ساعة عليها ... وحيث بانتهاء الحالة المشهودة للجريمة ... أصبح من اللازم الحصول على إذن من نقابة المحامين لملاحقته عملاً بنص المادة 79 من قانون تنظيم مهنة المحاماة».
(8) Bernard Bouloc‚ Précis de procédure pénale‚ Dalloz‚ 21ème édition 2008‚ page 389.
(9) المحامي الياس أبو عيد، أصول المحاكمات الجزائية، المرجع السابق، الصفحتان 192 و193.
(10) علي عبد القادر القهوجي، شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية، دراسة مقارنة، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2002، الكتاب الثاني، الصفحة 108: «فإذا لم يشاهد الضابط العدلي بنفسه صورة من الصور السابقة لا تتحقق الجريمة المشهودة حتى ولو كان قد علم بها عن طريق الرواية أو الشهادة أو حتى اعتراف المشتبه فيه».
(11) عمر السعيد رمضان، أصول المحاكمات الجزائية في التشريع اللبناني، الدار المصرية للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1971، الصفحة 278.
(12) تفرض المادة 31 من قانون أصول المحاكمات الجزائية انتقال النائب العام إلى موقع الجناية المشهودة، القاضي حاتم ماضي، قانون أصول المحاكمات الجزائية، المنشورات الحقوقية، صادر، بيروت، الطبعة الثانية 2002، الصفحة 120.
(13) نقض مصري تاريخ 30/12/1963، مجموعة أحكام النقض، س 4، الصفحة 1011، الرقم 184. ونقض مصري 1/3/1966، أحكام النقض س 17، الصفحة 221، الرقم 42.
(14) فايز الإيعالي، المرجع السابق، الصفحة 198. الدكتور علي عبد القادر القهوجي، المرجع السابق، الصفحة 141.
(15) الدكتور علي عبد القادر القهوجي، المرجع السابق، الصفحة 141.
(16) نقض مصري تاريخ 20/12/1937، مجموعة القواعد، الجزء 4، الصفحة 121، الرقم 131.
(17) الدكتور علي عبد القادر القهوجي، المرجع السابق، الصفحة 142.
(18) محكمة استئناف بيروت المدنية، الغرفة الثالثة عشرة، القرار الرقم 14، تاريخ 7/7/1999.
(19) محكمة استئناف الجنح في جبل لبنان، القرار الرقم 222 تاريخ 31/1/2001.
(20) محكمة استئناف الشمال المدنية، الغرفة السادسة، القرار الرقم 28 تاريخ 12/1/2004.
* محام وباحث في القانون