في إطار التنظير للمرتكزات الفكرية التي يجب أن يقوم عليها تحالف محور المقاومة في المنطقة في مواجهة الكيان الإسرائيلي، هناك من يطرح أنّ هذا التحالف يجب أن يقوم على أساس من «تحقيق المصلحة ومنع الضرر... فالتحالفات السياسيّة والعسكريّة تُبنى بالأساس على الأقرب والأصلح، ومن تأتي من ورائه المصلحة، أو ما يدفع به الضرر»، وليس على أساس عقدي. وما يُفهم من المصلحة هنا، المصلحة السياسية والعسكرية، ومجمل ما يرتبط بها من مصالح اجتماعية ومادية وسوى ذلك.ويُطرح هذا التنظير في مقام الردّ على بعض الأصوات المذهبية والتكفيرية، الرافضة للتحالف القائم بين بعض قوى وأطراف حركات المقاومة ومحورها في المنطقة، وذلك بهدف تبرير هذا التحالف، من حيث القول إنّ التحالفات لا تُبنى على أساس عقدي، وإنما على أساس المصلحة ودفع الضرر.
ومن يطرح هذا التنظير لديه موقف متقدّم، وهو أنّه يدعو إلى تحالف كهذا وإلى ديمومته بين قوى محور المقاومة، لكنّه - في المقابل - موقف ينطوي على إشكالية تحتاج إلى بعض من النقاش، لأنّ السؤال الذي يُطرح هو: هل من الصحيح بناء هذا التحالف على أساس مصلحي فقط، بالشكل الذي يُطرح؟ وما هي نتائج هذا الطرح ودلالاته؟ وبالتالي، إلى أين يمضي بنا هذا التنظير الفكري؟ لنخلص إلى نتيجة أو أخرى في هذا الشأن، وهو ما يتطلّب منّا تقديم مقاربة نقدية تحليلية، يمكن إجمالها في النقاط الآتية:
1. إنّ وضع الأساس العقدي (المذهبي) في قبال المصلحة يرتكز على عقليّة اختزالية، تفتيتية، تقسيمية، أي هي تختزل البُعد الديني بالجانب المذهبي، وتحصره في موارد الاختلاف، وتتغافل عن مساحة كبيرة من المشترك الديني والقيمي، لتجد الخلاص من المعضلة في مقولة المصلحة فقط، بما يعني تهميش ذلك البُعد الديني والإسلامي المشترك، وعدم اعتباره أساساً يصلح للبناء عليه بناءات كبرى، من قبيل مواجهة أعداء الأمّة، والاستعمار، والاحتلال الصهيوني. وإلّا لو كانت هذه العقليّة ترى في الهوية العقديّة لقوى محور المقاومة أنّهم مسلمون، وأنّ المشترك الإسلامي والعقدي، والروائي والفقهي، هو مشترك كبير وذو أهمّية، لكانت المقاربة مختلفة، ولكان الأساس الذي يُبنى عليه ذلك التحالف لا يُحبس في مقولة المصلحة ويقتصر عليها.
2. إنّ هذه المقاربات تظهر أنّ التراث التكفيري والمذهبي والرجعي، الذي فتك بالاجتماع الإسلامي العام، وشوّه العقل الإسلامي، وسمّم الوعي المنبثق منه، وساعد أعداء الأمّة الإسلامية على تحقيق مآربهم، ما زال حاضراً في هذا الوعي الإسلامي والمذهبي، وأنّه ما زال يشكّل خطراً، ليس فقط على الوعي الإسلامي، بل أيضاً على أي نهضة أو تجربة إسلامية، ولا أدلّ على ذلك من اللجوء إلى مقولة المصلحة - دون الأسس العقديّة والدينية والقيميّة المشتركة - في سياق الردّ على صوت نشاز من هنا أو هناك، يعمد إلى التشويش على تحالف قوى المقاومة في مواجهة العدوان الإسرائيلي.
3. هنا يوجد أمرٌ لافت، ينبغي الوقوف عنده مليّاً، وهو أنّ أصوات التكفير هذه تعمل على التشويش على التحالف الذي يجمع قوى المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، لكن لم يُسمع من هؤلاء التكفيرين اعتراض على تحالف أو آخر عندما يكون في مواجهة دولة عربية أو إسلامية. فهناك أكثر من تحالف جمع ويجمع دولاً عربية وإسلامية مع دول غير إسلامية، ومع دول غربية تساند إسرائيل وعدوانها واحتلالها، لكن هذه التحالفات لا تغيظ هؤلاء التكفيرين، ولا يرون فيها مساساً بالدين والعقيدة والمذهب - رغم الاختلاف الديني، وليس فقط المذهبي. أمّا عندما يكون التحالف في مواجهة إسرائيل والهيمنة الأميركيّة في المنطقة، فعندها تشتعل الغيرة على الدين، وتفور الحميّة على المذهب والعقيدة.
4. هناك فصائل مقاومة في الداخل الفلسطيني تختلف في توجّهاتها الأيديولوجيّة، فقد تجد فصائل تعتمد الأيديولوجية الإسلامية الإخوانية - أو لربما الإخوانية السلفيّة - وقد تجد فصائل تعتمد الأيديولوجية الإسلامية، لكن ليس الإخوانية، وقد تجد فصائل لا تعتمد من الأساس الأيديولوجية الإسلامية، وإنما هي ذات توجّه وطني - ليس بالضرورة علمانياً - أو ربما قومي أو عروبي أو يساري، مع شيء من العلمانية، أو قد تجمع أيديولوجيّتها أبعاداً مختلفة، ليس فيها المُعطى الإسلامي. وعليه، هل سوف تعمد تلك الأصوات التكفيرية إلى التشويش أيضاً على تعاون فصائل المقاومة الفلسطينية في ما بينها، مستندة إلى الاختلاف الأيديولوجي في توجّهاتها وفكرها؟
5. هنا ينبغي التذكير بسؤال النهضة والتخلّف، وسؤال التحرّر والاستعمار، وسؤال الرجعيّة والتقدّم، لأقول بأنّ واحدة من أهم الإجابات المستدلّة في المقام، هي قابليّة بعض المجتمعات والثقافات للتفرقة، واستعصاؤها أمام التوحّد والتعاون والعمل المشترك، ومن أهم النماذج الصارخة في هذا السياق هو هذا العقل التكفيري التفريقي الرجعي، والعنصري التدميري، الذي يعدّ أفضل مطيّة لجميع مشاريع الاحتلال والاستعمار والهيمنة في مناطقنا، إذ إنّ أولوية خطابه ومشاريعه العمل على التناحر المذهبي، والاحتراب الطائفي، والانقسام المجتمعي، والتدمير الذاتي، بما يساعد على تهيئة الظروف المناسبة، وإعداد الأرضيّة المساعدة، لسياسات الاحتلال والاستعمار، للنفوذ إلى مجتمعاتنا، وتحقيق أهدافها.
6. هناك سؤال ينبغي الوقوف عنده بعمق، وهو أنّ جميع جماعات التكفير هذه، متى يعلو صوتها؟ ومتى تثور حميّتها؟ ومتى تعلن النفير، وتدعو بالويل والثبور، وعظائم الأمور؟ ومتى تستخدم الدين وقدسيّته؟ هل تفعل هذا عندما يكون الأمر مرتبطاً بالدفاع عن فلسطين مثلاً، وفي مشروع تحريرها ودعم مقاومتها، أم في مواجهة الاحتلال الأميركي ومشاريع الهيمنة الاستعمارية على دولنا، وسرقة ثرواتنا، ونهب خيراتنا، والتعدّي على سيادتنا، والذّود عن الأمّة الإسلامية وكرامة أبنائها؟ أم أنّها تفعل جميع ما تقدّم، عندما يكون الأمر مرتبطاً، فقط وفقط، بالفتنة المذهبية، والاحتراب الطائفي، والتقاتل الداخلي، والتناحر بين أبناء الأمّة الواحدة؟
7. عندما يتم اللجوء إلى مقولة المصلحة، في مقابل تشويش تلك الأصوات التكفيرية على التحالف بين قوى المقاومة، من دون الاستناد إلى المشترك الديني والإسلامي، فهذا ما قد يُفهم منه نوع إقرار بأراجيف تلك الأصوات واتّهاماتها بحقّ قوى المقاومة التي قد تختلف مذهبياً. وقد يفضي إلى تعزيز تلك العصبيّات المذهبية، أو التساهل معها، وخصوصاً عندما لا يُعمل على إبطال تلك الاتهامات ونقدها، في حين أنّ المطلوب العمل عليه في هذه الحال هو: أوّلاً، مواجهة تلك الأراجيف والاتهامات الباطلة، والتي تعود - في مجملها - إلى ذلك التراث التكفيري، الذي تشكّل في سياقات تاريخية وسياسية مسمومة، ودحض تلك الاتهامات الجائرة التي توجّه إلى فئات كبيرة من المسلمين وعقائدهم، وتسهم في إفساد العلاقات معها، وفي إفساد الاجتماع الإسلامي العام بفعل سمومها. وثانياً، بناء التحالفات، ليس فقط على الأساس المصلحي، وإنّما أيضاً على المشترك الديني والإسلامي، وعلى قيم الحقّ والعدل والخير، والتي هي قيم دينية عامّة، وأيضاً إنسانية عابرة.
8. هنا توجد مفارقة، من الأهمية بمكان الوقوف عندها، وهي تتطلّب طرح هذا السؤال: من الذي ينصر فلسطين ومقاومتها، في وقت المحنة، وزمن الشدّة، ليس فقط بالمال والكلام، - وهو أسهله - وإنما بالقتال والسلاح، والفعل المقاوم، وبذل الدماء وأغلى التضحيات، حتّى لو كلّفه هذا غالياً، وعرّضه لكثير من الضغوط والأضرار؟ أليس، فقط، تلك الجهات من قوى المقاومة، التي تختلف مذهبياً وعقدياً (في بعض المعتقدات) عن قوى المقاومة الموجودة في الداخل الفلسطيني؟ فالمفارقة هي أنّ من يختلف مذهبياً ينصر فلسطين بالقتال والحرب، وأنّ من يشترك مذهبياً لا ينصر فلسطين بالقتال والحرب، وهنا قد نحتاج إلى تبصّر دور مقولة المصلحة في جعل هؤلاء ينصرفون عن نصرة فلسطين ومقاومتها!
والسؤال: ألا تدعو هذه المفارقة إلى مساءلة العامل المذهبي بعمق؟ ألا يدعو ما سلف إلى توجيه السؤال لهؤلاء الغارقين في هذا الاحتباس المذهبي، لماذا لا توظّفون ذاك المشترك المذهبي لنصرة فلسطين، وأهلها، ومقاومتها، بالفعل والقتال، كما يفعل محور المقاومة؟ ولماذا لا تكفّون عن توظيف العامل المذهبي في ثرثرات تافهة، في غير محلّها، ولا يستفيد منها إلّا العدوّ الصهيوني؟ ألا تتطلّب منّا هذه المفارقة أن نستنتج منها ما يفضي إلى الكفّ عن إعلاء ذلك العامل المذهبي، وسوء توظيفه في الفتن، التي تخدم الكيان الإسرائيلي، وأعداء الأمّة؟ ألا نستنتج ممّا تقدّم، أنّ الأساس الذي أثبت وعيه، وصوابيّته، وجدوائيّته، ونخوته، وغيرته، وإشباعه الأخلاقي، والقيمي، والإنساني، هو ذاك الأساس القيمي، والديني، والأخلاقي، والإنساني الموجود لدى حركات المقاومة تلك، التي ناصرت فلسطين بالفعل والقتال، وساندتها بالحرب، والدماء، والرجال؟
9. لماذا لا تستند تلك الجماعات إلى الاختلاف الديني مع اليهود الصهاينة، لجعل بأسها عليهم؟ ولماذا لا تستند إلى الاختلاف الديني مع الغرب الداعم للكيان الصهيوني لجعل بأسها عليه؟ ولماذا نجد في المجمل أنّ هذه الحركات التكفيرية تقاتل حيث تكون هناك مصلحة لأميركا وإسرائيل، ولا تقاتل حيث تكون هناك مصلحة للمقاومة وفلسطين؟
10. عندما أَستخدم مقولة المصلحة بهذه الكيفيّة، ماذا أقول بهذا الجواب لبقيّة أطراف محور المقاومة؟ أقول لهم بأنّي أتحالف معكم في مواجهة إسرائيل لأنّ مصلحتي فقط تتطلّب ذلك. وعليه، ما هي الرسالة التي سوف تصل إلى بقية أطراف هذا المحور عندها، وكيف سأفترض ردّة فعلهم؟
من المنطقي أن يقولوا الآتي: نحن نضحّي بالغالي والنفيس، وبفلذات أكبادنا، وبالكثير من مصالحنا، نصرةً لقضية نراها مقدّسة ولشعب مظلوم (الشعب الفلسطيني)، ولأنّ قيمنا الدينية والإيمانية والإنسانية تفرض علينا هذا الموقف، ولو على حساب مصالحنا، ولا أدلّ على ذلك من العروض السخيّة من الغرب والولايات المتحدة الأميركية، والتي تنطوي على الكثير من المصالح الاقتصادية والسياسية والماليّة وغيرها لأطراف في محور المقاومة، حتى تتخلّى عن نصرة فلسطين وقضيتها، فلا تفعل. ثمّ أنتم تقولون إنّكم ترتضون هذا التحالف، فقط وفقط، لأنّ مصالحكم السياسية والعسكرية تقتضي ذلك! فليس هذا من دواعي الإنصاف في شيء، لأنّه لا يستوي من يتحالف - بالدرجة الأساس - على أساس المبادئ، مع من يتحالف، فقط وفقط، على أساس المصالح. ولا يستوي من يضحّي بمصالحه خدمةً لقضية تقوم على الحق والعدل، مع من يتحالف على أساس المصلحة دون القيم والمبادئ.
11. ألا يدعو هذا التأسيس الفكري، القائم على أساس المصلحة، إلى التخلّي عن نصرة فلسطين وشعبها ومقاومتها؟ إذ عندما يأتي أحد أطراف محور المقاومة، ويقول: أنا أبني تحالفي مع بقية أطراف محور المقاومة على أساس من المصلحة فقط، فمن حقّ كل طرف آخر أن يقول أيضاً: وأنا أبني تحالفي على أساس من المصلحة فقط. فهنا سيكون السؤال مطروحاً بقوّة، وهو: من سيكون له مصلحة في نصرة فلسطين بالسلاح والقتال، في مقابل ما لدى الغرب من إمكانات هائلة: اقتصادية، ومالية، وعسكرية؟
إنّ ما تقدّم يؤدّي إلى تأبيد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وكأنّ من يدعو إلى تأسيس التحالف المقاوم على أساس من المصلحة، إنما يقدّم وصفة كاملة الأوصاف للاحتلال الإسرائيلي، وداعميه من الغربيّين، لتأبيد هذا الاحتلال، وديمومة هذا العدوان، وتفكيك أيّ تحالف يهدّد الكيان الإسرائيلي، ووجوده.
إنّ هذه المقاربات تظهر أنّ التراث التكفيري والمذهبي والرجعي، الذي فتك بالاجتماع الإسلامي العام، وشوّه العقل الإسلامي، ما زال حاضراً


12. إنّ هذا التحالف الذي يُبنى على هذا الأساس المصلحي السياسي والعسكري، هو تحالف هش، وضعيف، وغير مستدام، وغير موثوق، إذ ما الذي يمنع أيّ طرف من أطراف هذا التحالف أن يكون له مصلحة اليوم فيه، ولا يكون له مصلحة غداً فيه، أو أن تصبح له مصلحة أشدّ في مكان آخر، أو لربما تضحى له مصلحة في أن يغدر بحلفائه وينقلب عليهم، أو حتى يطعن بحلفائه، طالما أنّ مصلحة راجحة قد تلوح له في الأفق، وتُعرَض عليه. وبالتالي، من يطمئنّ لتحالف كهذا، ومن يثق بحلفاء دينُهم وديدنهم مصالحهم، دون القيم والمبادئ، والرؤى الاستراتيجية التي ترتكز عليها، وخصوصاً أنّ كل طرف هو من يقدّر مصالحه، ليبني عليها المواقف والسياسات.
وعليه، هل يمكن أن يكون لتحالف كهذا من استدامة، إذ لم يكن قائماً على الوفاء، والعدل، والإنصاف، وقيم الأخوّة الإسلامية ومجمل القيم الإسلامية، والأخلاقية، والإنسانية ذات الصلة؟
13. بناءً على هذا التأسيس، لن يبقى مجال لمطالبة أيّ دولة أو جهة عربية أو إسلامية بنصرة القضية الفلسطينية، أو بالحدّ الأدنى لوم هذه الدول والجهات، أو عتابها، أو اتهامها بالخذلان والتقصير بحق القضية الفلسطينية، لأنّ الجواب سوف يكون حاضراً، ويحمل - بناءً على ذلك التأسيس - مبرّره الديني، ألا وهو أن لا مصلحة لنا سياسية أو اقتصادية أو مالية أو اجتماعية أو جيوسياسية أو... في نصرة القضية الفلسطينية.
14. وهل سيبقى لنا من صدقيّة - بناءً على هذا التأسيس - في إدانتنا للغرب ودوله وسياساته، ولكثير من دول العالم وسياساتها في مساندتها للكيان الصهيوني ودعمه، وعدم اتخاذها موقفاً أو آخر منه؟ لأنّه إذا قلنا - كما نفعل في الواقع، في مقام نقدهم وإدانتهم وتخطئتهم - إنّكم تقدّمون مصالحكم على كل شيء، وتفارقون بسياستكم جميع القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، وتغادرون جميع المبادئ التي قامت عليها المؤسّسات الدولية، وقوانينها، وسياساتها وأهدافها، سيكون جوابهم التلقائي: هذه هي مصالحنا، ونحن نعمل طبقاً لمصالحنا. وعندها، هل سيبقى في جعبتنا كلام معهم، لأنّه إن طالبناهم بالتخلّي عمّا يرونه مصلحة لهم، تماهياً مع تلك المبادئ والقيم، سيقولون لنا: لا تلزمونا بما لا تلتزمون به.
15. عندما أختزل في مقولة المصلحة، تحالفاً استراتيجياً بهذا المستوى لمواجهة الاحتلال، والهيمنة، والاستعمار، والاستكبار العالمي، ألا أقدّم بذلك - من حيث أعي أو لا أعي - خدمة جليلة للعدوان الصهيوني؟
وبيان ذلك أنّ الصهيونيّة ترتكز في عدوانها المستدام على أساس من مصلحة «الشعب اليهودي»، وحتى عندما يعملون على استكمال مشروع التهجير للفلسطينيّين، فهم يبرّرون ذلك بالمصالح اليهودية، ومصلحة الكيان الإسرائيلي، في حين أنّنا نواجه ذلك - في مقام الحِجاج - بمنطق الحقوق، والقيم، والمبادئ، والقوانين الدولية وغيرها.
16. إنّ بناء المواقف والتحالفات والسياسات على أساس من مقولة المصلحة فقط، هو بمثابة علمنة للفكر الإسلامي وللوعي الإسلامي، وتشويه له، ويفضي إلى جعله مادّياً وضعيّاً نفعيّاً، ويؤدّي إلى الهبوط به إلى منحدرات بعيدة عن الرقيّ المعنوي والسموّ القيمي، وعن المبادئ والمعاني الأخلاقية الرفيعة، التي هي - أي هذه المبادئ والمعاني - تجعل من سياستنا سياسة مختلفة، ومن مواقفنا مواقف متميّزة، فإذا أضحينا كالغرب النفعي والمادي والعلماني في وعينا وسياستنا، فإلى أين سوف تؤول الأمور؟
إنّ تجريد الوعي والفكر من القيم الأخلاقية، والمبادئ الدينية، والمشتركات الإسلامية والإنسانية، لهو فعل خطير جدّاً، لأنّه سوف يؤدّي إلى الهبوط بالفعل والمواقف إلى مدارك وضيعة، إذ سوف يُعمل عندها على تبرير الغدر وعدم الوفاء بتحقيق المصلحة الخاصّة، وتسويغ انتهاك القيم الأخلاقية بجلب المصالح، وتعليل خرق المبادئ الدينية والإنسانية باستجلاب ما هو أصلح. وهو ما سوف يجعل من مجمل تلك المواقف والسياسات - التي تتّبع هذا الفكر - مواقف وسياسات مجرّدة من الروح، خالية من القيم، مجافية للمبادئ، بعيدة عن الأخلاق ومعانيها. فأيّ سياسة ستكون عندها هذه السياسة؟ وأيّ مواقف ستكون هذه المواقف؟ وأيّ تحالفات ستكون هذه التحالفات؟ عندما لا يكون دينها وديدنها إلّا المصلحة، والمصلحة فقط.
في الختام والمآل، لا بدّ من القول: إنّ اعتماد مقولة المصلحة بالشكل الذي يُفهم من بعض المقاربات ذات الصلة، أنّها مصلحة سياسية - عسكرية وغيرها، لهو أمر خطير جدّاً، ليس فقط على العقل السياسي الإسلامي، أو الوعي السياسي الإسلامي، بل أيضاً على التجربة المنبثقة من هذا العقل، وعلى الفعل المستولَد من هذا الوعي، وعلى جميع المواقف والقرارات ذات الصلة. إذ إنّ ذلك يؤدّي إلى تجفيف الوعي والتجربة والفعل، من الأبعاد المعنوية والأخلاقية والقيمية، ليضحى المعيار هو مصلحة هذه الجماعة أو تلك، أو مصلحة هذه الفئة أو تلك، أو مصلحة هذا الإطار المذهبي أو ذاك، وهو ما سيفضي إلى أمرين: الأوّل، الانزلاق إلى الاعتبارات المادّية من سياسية وغيرها، وهو ما تحدّثنا فيه آنفاً. الثاني، قابلية الجنوح إلى العصبيات الفئوية، أو الأنانيّات الجمعيّة، لأنّ المعيار سيكون مصلحة الفئة، أو مصلحة الجماعة، أو مصلحة هذا الفصيل، وذلك بحسب ما يُعمل على إسقاط مقولة المصلحة على هذا الواقع السياسي – العسكري أو ذاك.
وهو ما يؤدّي، ليس فقط إلى مغادرة المنظومة الإسلامية في الوعي والفعل، والقائمة أساساً على الأبعاد القيميّة والأخلاقية، بل يؤدّي أيضاً إلى إفشال التجربة السياسية وغير السياسية، إذ إنّه بمقدار ما نُستدرج إلى أيّ منحى فئوي أو عصبوي أو مذهبي - بالشكل الذي يُطرح عادةً - بمقدار ما نفارق: العقلانيّة، وروح الدين، والقدرة على وعي العصر، والحكمة في الفعل، وفعل الإنصاف، والتأسيس لوعي رشيد، هذا الوعي الذي نعوّل عليه لاستيلاد التحالف الموثوق، والتعاون البنّاء، والتأسيس للنجاح، والإنجاز، وصناعة النصر.
وما يجدر الإلفات إليه هو أنّنا لا نريد مِمّا تقدّم القولَ إنّه يجب إقصاء مقولة المصلحة، بل ما نريد قوله هو إنّ مقاربة هذه المقولة يجب أن تكون من ضمن منظومة استراتيجية أشمل، تستوعب مجمل الأبعاد القيميّة، والأخلاقية، والإنسانية، وغيرها من مصالح على اختلافها، لتكون مقولة المصلحة واحدة منها، وليس الوحيدة فيها؛ فيُعمل على تحقيق مجمل المصالح العامّة، وذلك من خلال منظومة القيم تلك، وتحت حكومتها، وليس على حسابها، أو بما يجافيها.

* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية