عبر مسارات التاريخ المتعرّجة، منذ الشروع في رحلة الحضارة المدوّنة وحتى اللحظة الراهنة، تتأرجح طائفة من المفكرين والمثقفين الذين يتحلّون بفنون اللغة والكلام برشاقة وإتقان. يبرز عملهم في الكثير من الأحيان كجهد جماعي متّحد لتفكيك الهياكل الثقافية والفكرية القائمة، حيث يظهرون بمظهر مناهض لهذه الهياكل كمنافسين أو نقّاد مستنيرين.إنّ جهودهم المتواصلة في تقويض القواعد والمرتكزات العرقية والفكرية تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من مسار تغيّر المجتمعات. وعلى الرغم من اختلاف الأزمان والأحداث، فإنّ النهج العام لهذه الجهود يظل ثابتاً دون تحولات جوهرية.
يبدأ هذا النهج بالإساءة إلى الهويات الوطنية والعقائدية، مروراً بالتعرض للهويات الثقافية والعرقية، إلى أن يصل إلى مرحلة الهدم الشامل للإنتاج الفكري، الذي يمثّل توق البشرية إلى الخلود، فالنقد البنّاء أصبح استثناء نادراً، وهكذا تبقى المجتمعات عالقة في دوامة التناقضات والصراعات التي تعيق تقدّمها الحضاري والفكري.
‏‎ومع هذا التأثير السلبي، من الضروري أن نحافظ على الوعي من خلال البحث العلمي والاستقصاء الموضوعي لأنهما الطريقة الوحيدة لفهم الحقائق ورصدها بدقة، وبالتالي، يجب أن تكون الاستنتاجات المستمدّة من هذه الجهود مبنية على أسس علمية ومنهجية صحيحة، بعيدة عن التعصّب والتحيّز. هذا ما يحتاج إليه المجتمع في هذه الأوقات الحرجة، حيث تتعاظم التحدّيات الثقافية والاجتماعية والفكرية التي تتطلّب توجّهاً إلى العلم والمعرفة لمواجهتها بنجاح.
سنمتنع عن الخوض في التعليق على آراء الكاتب بخصوص الخميني وجهيمان، مدركين للانحياز المتأصّل فيها. فتلك القصائد خاصة بمرحلة معيّنة بكل تعقيداتها، ويبدو أن الكاتب لم يقرأ القصائد بروح الباحث أو الناقد، بل محاولاً قراءة النصوص بما ينسجم مع فكره وما يريد إيصاله إلى المتلقي! ولا مجال هنا لنناقش قصائد مظفر النواب وآراءه السياسية وهدفَه الأساسي بإنهاء الظلم وتحرير الشعوب وأن للثوار وجهاً واحداً في روحه، أو نظرته الصوفية في قصائده، فالقصائد حمّالةُ أوجهٍ تعتمد على المتلقي وفهمه لروحية الشاعر!
«أنا هذي طاولتي
يقرؤني من يرغب
حسب ثقافته في العشق
وقد يخطئ،
لا أستاءُ» (مظفر النواب)
هذا متروك لذوي الاختصاص من النقّاد والباحثين الذين يسعون لدراسة القصائد ضمن سياقات منهجية وعلمية، وإن كانت تختلف مع وجهة نظر كاتبها (كاتب القصيدة).
في ما يتعلّق بسيرة حياة النواب، فإنّ السرد يمضي بعيداً بشكل واضح عن تفاصيل حياته وحياة آبائه وأجداده. المقال يُصوّر بشكل مؤسف تشويهاً للحقيقة، فيظهر بشكل لا لبس فيه توجّهاً صريحاً نحو المغالطة التاريخية، بدلاً من البحث المنهجي المتزن. إنّ مثل هذه الحالات من التشويه ليست بغريبة، بل متكررة ضمن الحوار المحيط بالشخصيات التاريخية المثيرة للجدل، سرداً ينحرف عن البحث الأكاديمي، ويتخذ طابعاً أكثر تماثلاً للسجال بدلاً من التأريخ، بحيث يجتهد الباحث في حياة النواب دون كلل في استخراج الحقائق، باعتماده على مصادر حيّة مثل أسرته، بدلاً من الاعتماد على أقاويل لا أساس لها من الصحة!
فعائلة النواب يعود أصلها إلى شبه الجزيرة العربية ويرجع نسبها إلى بني هاشم ونفيت إلى العراق ومن ثم إلى الهند بسبب حركات تمرد قادتها ضد الدولة العباسية، وبسبب مقاومتها للاحتلال الإنكليزي للهند نُفيت مرة أخرى، واختارت موطنها الأصلي العراق لتعود إليه في القرن التاسع عشر. فالجد الثاني لمظفر النواب، أحمد آغا النواب، كان أول الوافدين إلى العراق، وسكن في قصره المطل على نهر دجلة في جانب الكرخ في بغداد (شريعة النواب)، ومنه جاءت «بشريعة النواب يسبح حبيبي... وبجاه خضر الياس هو نصيبي» وأصبحت فولكلوراً شعبياً، وهناك ولد الجد الثاني لمظفر (أحمد حسن النواب) ومن بعده والده عبد المجيد النواب الذي تزوج السيدة وجيهة علي نقي النواب (ابنة عمه) ومن ثم ولد مظفر وإخوته (ملاحظة: الاسم مظفر وليس مركباً محمد مظفر). وجدّه لأبيه كان يقرض الشعر بالعربية والفارسية، وهناك الكثير من البحوث التاريخية، وأيضاً ما دوّنه الرحالة والمستشرقون بهذا الخصوص، وذلك متاح للباحثين الحقيقيين!
مثال على ذلك، موسوعة «تاريخ العراق بين احتلالين» للمحامي والمؤرّخ والنسّابة عباس العزاوي، والرحّالة الإنكليزية آن بلنت في كتابها «عشائر بدو الفرات عام 1878» وغيرها الكثير.
وبذلك فمن الطبيعي أن يعودوا إلى العراق بجنسيات هندية بريطانية، كون العراق في المرحلة المذكورة لم يكن دولة أو مملكة عراقية مستقلة بل واقعاً تحت الاحتلال العثماني وأبناؤه عثمانيو الجنسية، ومن العراقيين من استحصلوا الجنسية الإيرانية تجنباً للتجنيد الإلزامي للدولة العثمانية، فبقيت العائلة على الجنسية الهندية البريطانية إلى حين تأسيس دولة عراقية مستقلة. ولقب النواب هو لقب هندي يُطلق على أمراء وحكام المقاطعات المسلمين في الهند ومنه جاءت تسمية العائلة، ولم يتركوا قصرهم إلا في بدايات الخمسينيات من القرن العشرين وسكنوا مدينة الكاظمية لسنوات ومن ثم انتقلوا إلى كرادة مريم وسط بغداد، وبقي مظفر النواب على جنسيته العراقية مدى حياته ولم يتجنس بأي جنسية أخرى أوروبية، غربية، أو غيرها.
«عراقي هواه وميزة فينا الهوى
خبل يدب العشق فينا في المهود
وتبدأ الرسل»(مظفر النواب)
بسبب عدم تجديد الحكومة العراقية آنذاك لجوازه العراقي، كان مظفر يتنقل بجواز ليبي منحته إياه الحكومة الليبية في وقتها. أمّا بالنسبة إلى رضا منتظر (أبو عماد) فهو لم يكن جاراً للعائلة، بل صديقاً مخلصاً لمظفر في شبابه حتى مغادرته الحياة ومن المستبعد جداً أن يتكلم بغير الحقيقة! (وأخيراً فإنّ اللغة المحكية في بيت العائلة هي العربية)، وهنا السؤال لِم لم يذكر الكاتب هذا الكلام في حياة مظفر ورضا منتظر؟!
وبما يتعلق بالدكتور محمد مكية، فإنه طلب من مظفر ترك مكتبه بسبب توزيعه (أي مظفر) منشورات شيوعية في ذلك الوقت وهي مشاكل كان الدكتور محمد مكية في غنىً عنها. أمّا بخصوص أن مظفر النواب توقّف عن شتم الخليج بعد أن عاش فيه فإنه لم يتبرأ من أي قصيدة كتبها أو ألقاها سابقاً، ولم يغيّر موقفه أو يتنازل! ولم يكتب شيئاً فترة مرضه، والمرض ليس بموقف يُؤرّخ ليحاسب عليه الإنسان في ما بعد! وزيارته العراقَ لمدة أسبوع كانت أشبه بالوداع الأخير لوطنه الذي ولد فيه وتغنّى بحبه، فأتى إلى العراق عراقياً، لا شاعراً أو سياسياً.
من هنا اقتضى على عائلة الشاعر الكبير مظفر النواب، ممثّلة بشقيقته الكبرى السيدة سهام عبد المجيد أحمد حسن النواب، الردّ على محاولات التشويه التي تطاول أبا عادل وعائلته أو إرثه الأدبي.
«إذا كان البعض يفكر في النيل مني
‏هذا أنا
‏لست أملك إلا القميص الذي فوق جلدي
‏وقلبي وراء القميص يلوح» (مظفر النواب)


عائلة الشاعر مظفر النواب