أودّ، بداية، أن أشير إلى أنّنا، في الحزب السوري القومي الاجتماعي، نؤمن بالصراع الفكري وليس بالجدل الفكري، والفرق واضح بين المصطلحين. فالصراع يولّد حركة فكريّة منتجة ومبدعة حتى لو لم يتم التوصّل عبره إلى قناعة مشتركة، وهو إغناء للمخزون الفكري الّذي يبعث الوعي ويحثّ على الدراسة والتنقيب والاستنتاج وصولاً إلى الحقائق. أمّا الجدل، فهو شبيه بحوار الطرشان بحيث لا يمكن أن ينتج عنه سوى التشنّج الفكري المدمّر. وهنا أتّفق مع الكاتب علاء اللامي الّذي قال في ردّه: «لن أردّ بعبارات من النوع ذاته على كلّ هذه الإساءات لتفادي الانجرار إلى جدالات أيديولوجية لا علاقة لها بالبحث العلمي، وسأكتفي بكشف جوهرها الانعزالي عبر التركيز على مقاربة الجانب البحثي المنهجي لمقاربة الموضوع». طبعاً لا أوافق على المضمون الكامل لهذه الجملة وإنّما فقط، وكما ذكرت، على مسألة الجدل. ولكي أكون منسجماً مع تفكيري تمنّعت بداية عن الردّ، ليس لقناعتي بالرد الّذي كتبه السيّد اللامي، وإنّما لقناعتي بعدم جدوى الجدل، ولكن نزولاً عند رغبة عدد من الرفقاء والأصدقاء حول ضرورة الرد لا بغاية الجدال وإنّما إيضاحاً لهم وليس لغيرهم ممّن لا يأبهون للإيضاح. وسأنطلق من عنوان الردّ، «هل تنقض مقولة الهلال السوري الخصيب عروبة العراق وسوريا؟»، سواء أكان هذا العنوان من وضع الكاتب أو الجريدة، لأقول بأنّه يجب التفريق بين الجغرافيا الطبيعيّة التي فرضتها العوامل الجيولوجيّة على مدى مليارات من السنين، وبين بعض المصطلحات المستجدّة التي أطلقها بعض الباحثين والدارسين. فمقولة الهلال الخصيب، والتي يقول الكاتب بأنّني أعتبرها مقولة علميّة لا تقبل الجدل، والتي ابتكرها المستشرق الآثاري الأميركي جيمس برستد، هي مصطلح جغرافي ليس أكثر، ولست أدري كيف استنتج الكاتب أنّني أعتبرها مقولة علميّة. مصطلح جغرافي توصيفي لشكل سورية الجغرافية أو الطبيعية التي تأخذ شكل القوس. وفي المبدأ الخامس من مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي، والذي يتحدّث عن حدود الوطن السوري، جاء: «... ويعبّر عنها بلفظ عام: الهلال السوري الخصيب ونجمته جزيرة قبرص».
ويقول سعادة في معرض شرحه للمبدأ الأساسي الرابع: «إنّ مدلول الأمة السورية يشتمل على هذا المجتمع الموحّد في الحياة، الذي امتزجت أصوله وصارت شيئاً واحداً. وهو المجتمع القائم في بيئة واحدة ممتازة، عُرفت تاريخيّاً باسم سورية، وسمّاها العرب "الهلال الخصيب"، لفظاً جغرافيّاً طبيعياً محضاً، لا علاقة له بالتاريخ ولا بالأمّة وشخصيتها...». كما أنّ مناطق سورية الطبيعيّة (الهلال الخصيب) هي «وحدة جغرافيّة-زراعيّة-اقتصاديّة-استراتيجيّة»، وهذا يعني أنّها بيئة متكاملة قادرة على احتضان من يُقيم فوق ترابها ويتفاعل معها حيث تقدّم له الإمكانات الماديّة التي يحتاج إليها لكي يؤتي التفاعل أفضل الثمار. ويعني أيضاً، وفقاً لسعادة، أنّ العرب القادمين من الصحراء إلى هذه البيئة المختلفة عن بيئتهم أدركوا مميّزاتها وهم من أطلق عليها تسمية «الهلال الخصيب» ويبدو أنّ برستد أخذها عنهم.
أمّا الجزء الثاني من العنوان، والذي يشير إلى «عروبة العراق وسوريا» وإمكانيّة نقضها من خلال تسمية الهلال الخصيب، فلا أرى أيّ علاقة أو أيّ تأثير على مجريات الأمور الجيوسياسية والتاريخيّة. فالخلاف يتمحور حول مفهوم العروبة، فالبعض يعتبر أنّ العروبة قومية تجمع كلّ الشعوب التي تستوطن العالم العربي وتتكلّم اللّغة العربيّة وتدين بالإسلام بشكل عام، أمّا نحن، كسوريين قوميين اجتماعيين، فنعتبر، وكما ذكرت في المقالة الأولى، أبحاث أنطون سعادة الاجتماعيّة والتاريخيّة والجغرافيّة قد أرست مفهوماً جديداً لنشوء الأمم ولعصبية الجماعة التي تمّ الاصطلاح على تسميتها قومية. الخلاف، إذاً، جوهري انطلاقاً من الاستناد إلى قناعات مختلفة. وقناعتنا واضحة لجهة عدم موضوعيّة كلّ من يشير إلى تاريخنا بدءاً بالحروب التي شنّها العرب انطلاقاً من بيئتهم في الجزيرة العربية حيث كان الدافع المعلن عنها نشر الدين الجديد.
ولمّا كانت البيئة الأولى التي توجّه العرب إليها هي سورية الطبيعيّة، أو الهلال الخصيب، ذات حضارة تعود إلى ما يزيد عن الخمسة آلاف سنة عن تاريخ هذه الفتوحات، فكيف يمكن لنا أن نعتبر أنّ تاريخ بلادنا يبدأ من بدء خضوعها للفاتحين الجدد ونلغي آلاف السنين من التاريخ الحضاري الأوّل الذي عرفته الإنسانيّة جمعاء؟ ولماذا، مثلاً، نعتبر أنّ وجود «العرب» في الأندلس الإسبانية كان احتلالاً، ووجودهم في سورية ووادي النيل والمغرب هو وجود طبيعي وعلى تاريخ هذه الأقاليم أن يبدأ مع دخول العرب إليها؟ في الصف الثانوي النهائي في كلّ من مصر والجمهورية العربية السورية وفي المنهاج المقرّر لمادة الجغرافيا، قُسّم العالم العربي إلى أربع بيئات جغرافيّة طبيعيّة: بيئة الجزيرة العربية، بيئة سورية الطبيعيّة، بيئة وادي النيل، وبيئة المغرب الكبير. هذه حقيقة جغرافيّة لم يخترعها أنطون سعادة، ولكنّها في دراساته كانت الأساس الذي انطلق منه لتحديد نشوء الأمّة، وهذا تحدَّثتُ عنه في المقالة السابقة فلا داعي للتطرّق إليه في هذا الردّ.
أمّا أن يقول الكاتب بأنّه لن يردّ «بعبارات من النوع ذاته على كلّ هذه الإساءات» فهو يستدعي، ليس الردّ المباشر، وإنّما التساؤل حول مكمن الإساءة التي عادة ما تكون شتائم أو تجريحاً شخصيّاً أو تطاولاً على مقام معيّن، وهذا بالطبع لم يحصل، وهو لو حصل بالفعل لما تفضّلت جريدة «الأخبار» الغرّاء بنشر المقال وهي الجريدة ذات الاحترام الواسع لمهنيّتها أولاً ولإفساحها المجال لكلّ الآراء أن تطلّ على القرّاء، وإشارة الكاتب إلى الإساءات، التي أتت في غير محلّها، فيها إساءة إلى الجريدة قبل أن تكون الإساءة لي.
أمّا إذا تناولنا تفاصيل الردّ، فأراني ملزماً بالرد عليها دون إطالة. يقول الكاتب: «يريد لنا السيد المعقّب أن نوافقه الرأي على تحويل الوطن الأصلي والأقدم ومهد حضارات الشرق أي بلاد الرافدين إلى مجرد جزء أو نتوء متمّم لما يسمّيه "سوريا الكبرى" أو "الهلال السوري الخصيب"». أنا لم أستعمل تعبير «سوريا الكبرى» ولا في أيّ جملة من المقالة، فنحن نعتبر هذا المصطلح من ابتكار الاستعمار الإنكليزي ولذلك نستعمل مصطلح سورية الطبيعيّة وهي البيئة الطبيعيّة التي حدّدها علماء الجغرافيا. وأنا لم أطلب من السيّد اللامي، ولا أطلب من غيره أيضاً، أن يوافقني الرأي، وليس من عادتنا فرض رأينا على الآخرين، لكنّنا نؤمن بحرّية الرأي والمعتقد، وهذه الحرّية التي أعطيت له لكي يعبّر عن رأيه أُعطيت لي ولغيري لكي نُعبّر عن رأينا، وللآخرين الحرّية في الاقتناع بالرأي الذي يعتقدونه صواباً.
أمّا القول بأنّ رأيي يفرض تحويل الوطن الأصلي والأقدم ومهد حضارات الشرق إلى مجرّد جزء أو نتوء... فهذه إساءة وجّهها اللامي لنفسه وليس لي، لأنّه لا حقّ له أن يفسّر كلامي حسب رغائبه وينشرها على الملأ وكأنّها آرائي وهي ليست كذلك، وهذا يأخذ الحوار إلى خانة الجدل القاتل. بلاد الرافدين، بالنسبة إلينا، وهذا وارد في كلّ كتاباتي، هي مهد الحضارات، كما يقول اللامي تماماً، ولست أدري كيف استشفّ من كلامي أنّني أعتبرها مجرّد نتوء. أمّا القول بأنّها جزء من سورية الطبيعيّة -لا الكبرى- فهي كذلك وهذا لا يقلّل من أهميّتها على الإطلاق، ومن هذا المنطلق نقول بأنّ بلاد الشام (سوريا الحالية، الأردن، لبنان وفلسطين) هي جزء من سورية الطبيعيّة أيضاً، وما ينتجه جزء من الوطن، أي وطن، ينسب إلى الوطن بأجمعه خاصّة في ما خصّ المفهوم الحضاري العام. واستعمال كلمة نتوء من قبل السيّد اللامي أكثر من مرّة، لا يليق به ولا بأيّ جزء جغرافي من بلادنا لأنّ هذا التعبير فيه استهانة ونحن أكثر من يريد لبلادنا الرفعة والعز لا الذل والاتضاع، إضافة إلى أنّني لم أستعمله مطلقاً، وهذا قِمّة في اللاموضوعيّة عندما تنسب إلى كاتب شيئاً لم يذكره البتة.
ولقد قوّلني الكاتب، أو هو أطلق عن لساني ما يراه هو مناسباً لجدليته، ولم يستند إلى ما كتبته، وقريب من فكر الكاتب فكر بعض الانعزاليين اللبنانيين الذين اتهموا سعادة، بشكل خاص، والسوريين القوميين الاجتماعيين بشكل عام، بأنّهم لا يحبون لبنان وأنّهم يريدون إلحاقه بسورية، وهذا بالطبع لنقص في مفهوميتهم وليس لنقص في فكر سعادة. فالوطن وحدة لا تتجزأ وكلّ منطقة فيه هي عمليّاً جزء منه، ولا أفضلية لمنطقة على أخرى إلّا ما يشعر به قاطنوها من ارتباط بها وذلك لنشوئهم فيها. وعلى سبيل المثال، فإنّي أرى أنّ قريتي هي الأجمل في منطقتي ومن الطبيعي أن يكون حبّي لها أكبر من حبّي لبقية أجزاء وطني حتّى لو كانت أجمل، فهذا شعور طبيعي وبديهي، ونحن لا ننكر على السيّد اللامي محبته للعراق الذي نحبّه أيضاً لأنّه جزء من أمتنا وليس نتوءاً، وأعتقد جازماً أنّ سعادة كان يحب بلدته (الشوير، ضهور الشوير) أكثر من غيرها وهذا لا يُعدّ انتقاصاً من قيمة بقية أجزاء الوطن، ولكنّه كان يحب سورية كلّها عندما يتعلّق الموضوع بالانتماء القومي.
أمّا ما ذكره الكاتب تحت عنوان «هل بدأ التاريخ مع سلوقوس» فلا يمت إلى بحثي بأيّ صلة، خاصّة أنّنا نؤمن بالمبادئ التي وضعها سعادة ومنها المبدأ الأساسي الرابع وهذا نصّه: «الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولّدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي». وهذا يعني أنّنا، وبعكس القائلين بالقومية العربية والذين يعيدونها إلى القرن السابع يوم احتلّ العرب سورية، وهو احتلال مثله مثل أي احتلال آخر، دون أن يعني ذلك أنّ نتائجه كانت شبيهة بالاحتلالات التي سبقته من اليونان والرومان والفرس، والتي أتت بعده أي الأتراك والإنكليز والفرنسيين، لا نجزّئ تاريخ بلادنا بل هو وحدة متراكمة على مرّ العصور. إنّ هذا التاريخ الضارب في القدم سمح لكلّ الشعوب، التي استقرّت في سورية الطبيعيّة، سواء أكان قدومها إليها عبر هجرات طبيعيّة أم عبر الحروب الاستعماريّة، أن تتفاعل مع بعضها ومع الأرض الجديدة التي استقرّت فيها، لينتج عن هذا التفاعل مزيج سلالي متجانس أعطى للإنسانيّة أغنى حضارة عرفها التاريخ. ولا همّ إن كانت الإرهاصات الحضاريّة الأولى قد بدأت من بلاد ما بين النهرين فلاقتها بلاد الشام واستكملتها. وكما للسيّد اللامي مراجع تاريخيّة استعان بها ليؤكّد وجهة نظره، فلنا ما يزيد عنها ولن ألجأ إليها في هذه العجالة إذ ما يهمّنا هو أنّ سعادة تجاوز في أبحاثه الشأن التاريخي، الذي اجتزأه القوميون العرب، والشأن الجغرافي أيضاً، ليركّز على الشأن الاجتماعي معطياً تعريفاً للأمّة هو الأشمل والأعمق والأكثر دقة. وعندما أقول هذا الكلام فهذا لا يعني أبداً، كما ذكر السيّد اللامي في ردّه، أنّني أحاول أن أفرض رأيي عليه أو على غيره، وإنّما أستعمل حقّي في إبداء رأيي وقناعاتي انطلاقاً من حرّية إبداء الرأي التي تكفلها دساتير العالم.
في مقابلة أجراها الراحل يوسف الخال مع الشهيد كمال جنبلاط ونشرتها مجلّة «قضايا معاصرة» في عددها الصادر في تشرين الثاني من عام 1969 وعند سؤاله عن لبنان وإذا ما كان الكيان الحاضر هو الكيان الصحيح أجاب قائلاً: «...هذا المجتمع ليس مجتمعاً بالمعنى الصحيح، لأنّ ليس هنالك من متّحد لبناني، على حد تعبير أنطون سعادة الذي هو ولا شك خير من كتب في هذا الموضوع...».
وتحت العنوان الأخير، أي «الخطاب القومي العروبي والآخر السوري»، يقول السيد اللامي: «فإنّ هذا الخطاب الأيديولوجي الإلحاقي ليس حكراً على الكتّاب القوميين السوريين...»، سأكتفي بالرد على هذا المقطع لأنّه يعنينا مباشرة. إذا كان الكاتب يعتبر وجود بلاد ما بين النهرين إلحاقاً لهذه المناطق بمناطق بلاد الشام فهو حرّ بتفكيره الذي يبدو أنّه يتجاوز القوميّات إلى التفكير الأممي، أمّا سعادة فلم يتكلّم أبداً عن إلحاق، لا لجهة الجغرافية أو التاريخ أو التفاعل الاجتماعي، بل اعتبر أنّ البيئة السورية ذات الحدود الجغرافيّة المميّزة قد حضنت كلّ الشعوب التي تواجدت فيها منذ ما قبل التاريخ الجلي (المبدأ الرابع) وحتّى تاريخها الحديث لتشكّل مزيجاً حضاريّاً متجانساً، مستثنياً اليهود الذين أظهروا انغلاقاً وتحجّراً على كلّ الصعد ممّا يشكّل خطراً وجوديّاً على النسيخ الاجتماعيّ السوري، ولقد أثبتت الأحداث التي لم تزل تتالى فصولاً عن صحّة رأي سعادة الاجتماعي الراقي والبعيد عن العنصريّة كما يتّهمه قصيرو النظر - هذه العنصرية التي تنطبق بعمق على اليهود فقط.
وسعادة لم يقل بإلغاء أيّ حضارة برزت في سورية نافياً بذلك ما استنتجه الكاتب عندما قال: «والحلّ عند هذا الكاتب يكمن بإلغاء كلّ هذه الأسماء والحضارات ودمجها في ما يسميّه (سوريا التاريخ والحضارة)». إنّ هذا الاستنتاج هو قصور في فهم اللامي لمفهومنا للأمة الذي يشكّل تاريخها وحدة لا تتجزأ ولا يمكن فصل الجزء عن الكلّ، وهي ترتفع وتعتزّ بكلّ تاريخها. أمّا من أرادوا تجزئة التاريخ وبدءه بالفتوحات العربية فمعروفون ومفاهيمهم القومية أيضاً واضحة ولا نتفق معها، ولكنّنا نعود فنؤكّد، بأنّنا لا نفرض قناعاتنا على الآخرين كما يحاول الآخرون فرض قناعاتهم علينا.
وفي نهاية ردّ اللّارد، لأنّ السيد اللامي قوّلني ما أراد وبالتالي ردّ على نفسه، لا بدّ من دحض ما تفضّل به في المقطع الأخير متّهماً «دعاة القومية السورية» بمحو بعض مواقع جغرافيتنا السورية. ويتساءل عن الفرق بين المصطلحات التي أطلقها بعض الدارسين الأجانب والأسماء الأساسيّة وكأنّ السوريين القوميين الاجتماعيين هم من استغنوا عن التسميات القديمة وبدأوا باستعمال تسميات المستشرقين، وهذا يؤكّد لي أنّ السيّد اللامي غير مطّلع على تراث سعادة وتلامذة سعادة لأنّهم الأكثر تمسّكاً بتراثنا، حتّى إنّ الكثيرين يسمّون أولادهم بأسماء مناطق جغرافيّة من أمتنا دليلاً على تمسّكهم بكلّ حبة تراب من أرضنا دون تمييز بين منطقة وأخرى. فنحن من نستعمل دائماً تعبير بلاد ما بين النهرين عند حديثنا عن التاريخ القديم، وأرض كنعان وآرام وفينيقيا عندما نتحدّث عن بلاد الشام، بعيداً عن النزعة العنصرية التي تتحكّم بأصحاب النظريات الأخرى. وحده سعادة أوجد حلّاً لمعضلة الأقليّة، والتي لم يستطع أصحاب نظرية الوطن الواحد من المحيط إلى الخليج حلّها، والمسألة الكردية مثالاً.
أمّا عن تساؤله الأخير، والّذي يحمل التناقض بين تعابيره، أقول بأنّ بعض المناطق أو البيئات الجغرافيّة أخذت أسماءها قديماً والبعض الآخر في العصور الوسطى والبعض حديثاً نسبياً. والأسماء أطلقتها الجماعات التي نشأت في مكان ما، والاسم المُطلق على بقعة ما إمّا كان له معنى لغوي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فلسطين أخذت اسمها من أحد شعوب البحر التي وطأتها وكانت جزءاً من أرض كنعان. وأرض كنعان أُطلقت على معظم بلاد الشام وتعني المنطقة المنخفضة، كما يحلو للبعض إعادة التسمية إلى كنعان بن حام بن سام. وبلاد ما بين النهرين أُطلقت على الأرض التي تقع بين النهرين العظيمين دجلة والفرات، ولبنان أخذ اسمه من بياض الثلج على جباله وهي مشتقة من كلمة «ل ب ن» وتعني أبيض، ومنهم من يعيدها إلى كلمة اللبان نظراً إلى رائحة خشب الأرز البَخوريّة، ومنهم من قال إنّ الكلمة سريانيّة وتعني «قلب الله» لأنّ الشعوب القديمة كانت تعتقد بأنّ هذه الجبال هي موطن للآلهة. والأردن أخذ اسمه من اسم النهر... بالمختصر، لا يمكن الجزم والتحديد بدقة كيف أُطلقت هذه الأسماء والثابت أنّها وصلتنا بالتواتر، وبعضها تغيّر لظروف سياسيّة. أمّا عن الأسماء الحديثة، فمثلاً، أميركا أخذت اسمها من مستكشفها الثاني أميركو فاسبوتشي وليس من المستكشف الأوّل كولومبوس الذي حصل على جائزة ترضية فأطلقوا اسمه على كولومبيا في أميركا الجنوبية. وعندما وعت الشعوب لانتمائها إلى الأرض التي تقيم فوقها بدأت تأخذ اسم الأرض. وعندما ظهر مفهوم القوميّة الحديث بداية في أوروبا، بدأت كلّ الشعوب تؤكّد على قوميتها وتحدّدها انطلاقاً من اسم البيئة الجغرافيّة التي تعيش فيها. ونحن نقول إنّه لا أهميّة للتسمية التي فرضتها الجغرافياا القديمة، من جهة، والتاريخ من جهة ثانية، والمهم بالنسبة إلينا عدم التفريط بهذه الأسماء القديمة التي وصلتنا، مؤكدين على السيد اللامي أنّ النهضة السورية القومية الاجتماعية «تستمد روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي» (المبدأ الأساسي الرابع). فمن كان هذا مبدأه فهل يمكن أن ينزلق إلى طمس الأسماء التاريخيّة في بلاده واللجوء إلى تسميات المستشرقين؟
قد يأخذ منّا الردّ على مزاعم الآخرين وأخطائهم المقصودة وغير المقصودة مقالات طويلة وكتباً عديدة، ومهما أكثرنا من تفنيد هذه المزاعم والتحريف الذي يطاول الفكر القومي الاجتماعي، ومهما حاولنا الردّ عليها وتعريتها، فهذا لن يوقف الردود المضادّة وانتقادات قناعاتنا الفكريّة، وسنبقى حريصين على مبدأ الصراع الفكري وبعيدين عن الجدال متى وجدنا إلى ذلك سبيلاً.

* كاتب وباحث