لا مراء في أن «فتح» هي التي أطلقت المقاومة الفلسطينية سنة 1965. فافتتحت بذلك مساراً نضالياً تحررياً ذا فعالية موصوفة ضد الكيان الإسرائيلي، حيث ما لبث أن انضوت فيه فصائل وطنية ويسارية تحت القيادة العامة للحركة. واستمر هذا المسار النضالي من خارج فلسطين طيلة عقدين إلى أن خرجت المقاومة من لبنان سنة 1982. وقد شهد المسار محطات متنوعة منها ما يُحتسب للمقاومة ومنها ما يُحتسب عليها. لكن ما يقال هنا بأن الخروج من لبنان كان في أحد تعبيراته يحيل إلى توجه النظام العربي الرسمي في غلق أي مجال عربي للنضال الفلسطيني من خارج فلسطين.ولعل هذا ما كان يشكل لحظة ضاغطة قصووياً على فصائل المقاومة، وبخاصة على «فتح»، بحيث جعلتها اللحظة تذهب إلى خيار قسري أو اضطراري ينزع إلى الاعتراف بوجود إسرائيل ومن ثم يدخل في مسار تفاوضي معقّد إلى أن انتهى المسار إلى اتفاق أوسلو 1993 الذي أدخل أجساماً من المقاومة إلى الضفة والقطاع، والذي أتاح لـ«فتح» أن تبني سلطة فلسطينية بقيادتها، بحيث تفرّدت إلى حد بعيد في عملية بناء السلطة والتحقت بالمحصّلة الإجمالية للنظام العربي الرسمي الذي تمثّل على نحو رئيسي في أنظمة الخليج العربي.
وهذا الالتحاق ليس الأول في ديدن «فتح» السياسي، فقد التحقت، هي وفصائل أخرى، في الستينيات حتى بداية السبعينيات من القرن العشرين، بالمحصّلة الإجمالية للنظام العربي الرسمي المسمى وطنياً، وذلك بزعامة النظام المصري في عهد عبد الناصر. وحالما تراجعت زعامة النظام الأخير، عادت «فتح» والتحقت بالمحصّلة الإجمالية للنظام العربي الرسمي الذي أخذ يتمثّل في زعامة النظام السعودي.
إنّ إلقاء هذا الضوء على محطات الالتحاق يثبت حقيقتين: الأولى، وهي أن أي حركة تحرر وطني، وبخاصة هنا حركة التحرر الفلسطيني، لا بد من أن يتلازم معها دعم خارجي محدد. والثانية، وهي أن رفع شعار القرار الوطني الفلسطيني المستقل في مرحلة معينة، لم يكن يحيل إلى الاستقلال عن المحصّلة الإجمالية للنظام العربي الرسمي، بل كان يحيل وقتذاك إلى الاستقلال عن نظام عربي معلوم لسبب أو لآخر. على أي حال، هكذا نرى المنطق الذي حكم سياسة الالتحاق لهذا الطرف الفلسطيني أو ذاك.
أمّا السجال الذي دار أخيراً بين حركتي «حماس» و«فتح»، فإننا نراه يجانب حقائق المنطق أعلاه، إذ إن «حماس» ما كان لها أن تنتقد تفرّد «فتح» وعدم استشارة الفصائل في تشكيل حكومة فلسطينية جديدة في لحظة صراعية فاصلة في غزة ضد العدو الإسرائيلي. وهي لحظة تتوقف، كما تعرف «حماس»، على تحديد مصيرية القضية الفلسطينية حسب النتائج التي يؤول إليها توازن القوى الصراعي، مثلما هي تعرف أيضاً أن تفرد «فتح» هو ممارسة سلطوية لم تكفّ عن الأخذ بها منذ اتفاقية أوسلو. وهي لن تتراجع عنها بالرغم من مصيرية اللحظة الصراعية، لكونها مقيّدة إلى حد بعيد بالتحاق بالخليج وأميركا معاً.
يقدّم الانقسام تبريراً «مثالياً» لاستمرارية تخاذل النظام العربي في دعم المقاومة في نضالها المصيري ضد العدوان الإسرائيلي


كذلك، فما كان لـ«فتح» أن تعتبر أن نضالية «حماس» تحيل إلى أجندة خارجية، وهي تقصد أجندة إيرانية، وكأن «فتح» لا تنفذ ما يريده الخليج وأميركا في آن. وما كان لها أن تعتبر أيضاً أن «حماس» لم تستشر أحداً في ما قامت به في «طوفان الأقصى» الذي شكّل في النظر الفتحاوي مغامرة أعادت احتلال غزة من قبل إسرائيل، وهو نظر يعكس صراحة الموقف الضمني لأغلبية النظام العربي الرسمي، وكأن «فتح» كانت تستشير الآخرين أثناء قيادتها التاريخية في النضال الفلسطيني، أو كأن الفعل المقاوم بذاته يحتاج إلى إخبار آخر أو استشارته لكي ينتقل من طور الخطة إلى طور التنفيذ.
وبعيداً من هذا السجال الذي لا يليق بالطرفين، وخاصة بتاريخ «فتح» النضالي، لا بد من القول هنا ومن موقع الحرص الشديد على القضية الفلسطينية: إنه في حال استمر الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني في هذه اللحظة المصيرية فإنه يقدّم خدمة مجانية فريدة في بابها للكيان الإسرائيلي، في النيل من هذه القضية وفي إفراغ النضال الفلسطيني من مضمونه التحرري، لأن الكيان يعرف كيف يستغل جيداً الانقسام الفئوي بين «فتح» والحركات الإسلامية المقاومة.
كما يقدّم الانقسام تبريراً «مثالياً» لاستمرارية تخاذل النظام العربي في دعم المقاومة في نضالها المصيري ضد العدوان الإسرائيلي على غزة. كذلك، فهو يسوّغ إحجام الوسيط العربي (مصر وقطر) في المفاوضات بين «حماس» والكيان، عن استثمار حقائق الميدان في وساطته (الصمود الأسطوري لكل من المقاومة والشعب الفلسطيني - فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها من العدوان إلى آخره)، ما جعل هذا الوسيط يرتاح إلى دوره الدبلوماسي الحيادي الذي لا يشاهد المجزرة والإبادة في غزة إلا من باب خجله الإنساني. ذلك أن الانقسام أتاح له أن يعزف عن دور سياسي يكون فاعلاً ضد التعنت الإسرائيلي والنفاق الأميركي في المسار التفاوضي، إذا ما وظّف له بمهارة حقائق الميدان الصراعي.
لذلك كله، ودرءاً لتداعيات هذا الانقسام، يجدر بكل الفصائل وفي مقدمتها «فتح»، وبخاصة في اللحظة الراهنة، أن تعيد ترتيب البيت الفلسطيني من خلال إعادة بناء منظمة التحرير وفق المتغيرات الناشئة في الواقع الفلسطيني، ومن ثم التوافق على برنامج وطني موحّد تتحدد في ضوئه أقله مسألتان رئيسيتان: الأولى، شكل المقاومة الأنجع في سبيل التحرر الوطني. والثانية، شكل حل الصراع (أي دولة؟) بما يتلاءم وأحكام كل من الشرط العربي والإقليمي والدولي، الأمر الذي يصبح معه تشكيل الحكومة تفصيلاً سياسياً يأتي في خدمة البرنامج الوطني.
أمّا إذا لم يجر مثل هذا التوافق، فيخشى أن تبقى القضية الفلسطينية في حمى أجندات خارجية لا تتورع من إسكان القضية قسراً في مضارب مصالحها السياسية.

* باحث في علم اجتماع المعرفة