إن العائق الأكبر أمام عمل هذه الانتفاضة ن حو تغيير جذري هو في غياب اليسار والغياب الأكبر
للحركة العمالية عنها
أمّا في تفنيد الاقتباس المذكور آنفاً، فنسترجع كلماته الأولى: «ذات يوم، اجتمع الإخوة المطرودون...». ألم نكن كذلك؟ تحديداً، ألم نكن جميعنا ــ قبل 17 تشرين ــ مطرودين؟ من منّا أحَسّ، ولَو للحظة، ببدعة «الانتماء» أو «المواطنة»؟ من منّا شعر، عندما قصد الأراضي الواقعة تحت احتكار شركة «سوليدير»، أنّه فعليّاً يقصد وسط بلده؟ أصبحت العاصمة، بفعل 30 عاماً من الممارسة الاقتصادية ــ الاجتماعية ــ البرجوازية، مساحةَ نبذٍ واغتراب، لا هويّة لها، أو بالأحرى متناحرة بين پسيدو ــ هوياتٍ عدّة. نُساهم نهاراً في عملية إعادة إنتاج المدينة، فتقذفنا مساءً صوب ضواحيها، تطردنا. كنّا إذاً مطرودين عن المدينة، عن حقوقنا الحياتية البسيطة، عن واجباتنا السياسية، كنّا نرضى بواقعنا المعيشي، ونقيم طقوس التأليه لطَوطَمه، نقدّم له خبزنا كفاف يومنا، نبخّر صورته، ونلعن كلّ من حاول المساس به. إنّه آلهتنا، من يجرؤ على شتمها؟ إنّه حارس مدينتنا، العقل المحض، لا سلطان يعلو فوق سلطانه. لكن كان هذا تحديداً، قبل 17 تشرين. كان علينا، وفق تعبير فرويد، أن نلمّ شمل عصبة الإخوة. إلّا أنّنا لم نكن يوماً «إخوة مطرودين»، كنّا مطرودين فحسب. كان علينا أن نجتمع في حَيّزٍ مكانيٍّ مشترك، وفي لحظةٍ تاريخيةٍ مشتركة (طبعاً من دون أن ننفي كل ما سبقها من تراكمات)، ليصير معلوماً عندنا أنّنا نستطيع أن نقوم بـ«عمل محظور على كلّ واحدٍ منّا فرديّاً، لكنّه مبرّر إذا ما شارك فيه الجميع سواسية». قد يكون من السذاجة هنا، ذكر النكتة التي انتشرت حول المشاركة في التظاهرات: «أنا أوّل يومين كنت إنزل بس بعدين...». والحقّ يُقال، أوّل يومَين شاركنا جميعنا، سواسية، بقتل والدنا. قتلنا الطَّوطَم الذي استغلّنا لعقودٍ ثلاثة. إلّا أنّ عصبة الإخوة التي نشأت في أيّام الانتفاضة الأولى راحت تتفتّت قضمةً قضمةً نتيجةَ التخوين والتعبئة الطائفية والمناطقية التي مُورِسَت تجاهها، ناهيكَ عن مسرحية المؤامرة وبدعة السفارات.
هنا، استاء مَولانا فرويد، «اعتقدتُ للحظة أنّنا قتلناه»... كان عليه إذاً أن يُمَحِّص أكثر في نظريّاته ليَخلُص إلى قراءةٍ أوضح: «إنّ الطوطميّة نظام ديني واجتماعي في آنٍ معاً. فمن وجهة النظر الدينية، يتجلّى في علاقات الاحترام والمراعاة المتبادلة بين الإنسان وطَوطَمه؛ ومن وجهة النظر الاجتماعية، يتمثّل في التزامات متبادلة قائمة بين أفراد العشيرة وكذلك في التزامات تربط قبيلة بقبيلة». فكانت في التحديد، وجهة النظر الأولى، هي التي هُدِمَت خلال الانتفاضة، أي نمط العلاقة بين المواطن وطَوطَمه. في هذا السياق، نتكلّم عن ثلاث فئات من المواطنين، أو بالأحرى ثلاث طبائع لهذه العلاقة: 1 ـ من اجتاز قولاً وفعلاً هذه العلاقة (أو لم يخضها من الأصل). 2 ــ من لم يقتنع كليّاً بموت طوطَمه، لكن اهتزّت قواعد قدسيّته. 3 ــ من لا يعنيه شيئاً ممّا ورد حتّى الآن، وما زال مقتنعاً بالطابع الإلَهي للطَّوطَم ــ لا بل زادته الانتفاضة عصبيةً وتمسّكاً بالزعيم المُفَدّى.
إنّ «عناد» هؤلاء (كي لا نقول طغيان عصبيّتهم الطائفية على وعيهم الطبقي)، هو ما يُطيل الفاصل الزمني بين انحلال النظام الديني للطَّوطَميّة وانحلال النظام الاجتماعي منها. المؤسف، أنّ هؤلاء، هم تحديداً أكثر فئات المجتمع تهميشاً، وأكثرها حاجةً إلى منظومة سياسية ــ اقتصادية ــ اجتماعية جديدة. هم «البروليتاريا ــ الرثّة» بتعابير ماركس. إنّ البروليتاريا ــ الرثّة هي إذاً، بمقابلها الفرويدي، الأفراد الذين لم يقبلوا الانضمام إلى عصبة الإخوة التي ارتكبت الجريمة المجيدة، ظنّاً منهم أنّ هذا الوالد يبغي حقّاً مصلحة أبنائه، من دون أن يروا أنّه كان يحتكر كل ملذّات القبيلة ويحرمهم منها ــ لا بل اتّجهوا، في غير موضعٍ، للدفاع عنه عوضاً عن الثورة عليه. إنّه تقبّل المضطّهَد للمضطّهِد ــ وهذا بحثٌ آخر.
ولكن، على كلٍّ، كرة الثلج انطلقت وفرويد ما زال يضيف تبغاً لغليونه. مداميك النظام تصدّعت، فما هي سوى مسألة وقت (ونضالٍ مستمر)، حتّى تسقط جميع المحرّمات، حتّى تعيد عصبة الإخوة لمّ شملها فتدرك أنّها، قادرة مجتمعةً، على تحقيق ما عجزنا عن تحقيقه فُرادى. عندها، سندخل جميعنا، يعني جميعنا، في «احتفالٍ صاخبٍ مرح، تنفلت فيه جميع الغرائز من عقالها، ويُفسَح في المجال أمام شتّى ضروب الإشباع. وهنا، نستَشفّ بلا مشقّة طبيعة العيد، بل جوهره بالذات. فالعيد شطط مُباح، بل منظَّم، انتهاك احتفالي لناهٍ من النواهي. ولا يأتي الناس شططاً لأنّ لديهم استعداداً للابتهاج نزولاً عند أمر قانونٍ ما، وإنّما يؤَلّف الشطط جزءاً من طبيعة العيد بالذات؛ والميل إلى الابتهاج، إنّما ينشأ عن إباحة ما هو محظور في الأزمنة العاديّة»1. إنّ زمن 17 تشرين إذاً، زمن غير عادي، إنّه التمهيد لزمن العيد. يُطفئ فرويد غلوينه ويبتسم من عليائه، آملاً في لمّ الشمل القريب لكل المضطَّهَدين. «تسقط الطَّواطم، يَختُم، عاشت عصبة الإخوة!».
جميع اقتباسات هذا المقال من: سيغموند فرويد، الطوطم والحرام، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر ــ بيروت، 1983.
* طالب جامعي في هندسة العمارة، والفلسفة