من تسيطر عليه قيم السوق يتلذذ بطرح الأشياء وتهشيم التفاهمات
إيمانويل والرشتاين، وهو أحد علماء علم الاجتماع الأميركي يقول: «إننا نعيش في عصر الرأسمالية وما يحرك العالم اليوم هو البحث عن الفائدة». والبحث عنها إنتاجاً واستهلاكاً لم يقتصر على الأشياء المادية، بل تسرّب إلى العلاقات الوجدانية والاجتماعية بأنساقها المتعددة. وفي السياسة، الفائدة تعني الصفقات الرابحة، وأحزاب وشخصيات بلا صفات ثابتة، وروابط تتحول إلى سلع، وانتهاء تاريخ صلاحية العلاقة، واكتساب مهارات الإنهاء السريع للتحالف والشراكة، وكسر القواعد واختبار المتاح، والميل الشديد إلى كسر الروتين، والإشباع اللحظي، والوصفات السريعة المأمونة... ونتيجة ذلك أنّ الفائدة لن تُبقي للعاطفة والأخلاق إلا مساحة محدودة لا تتمتع بالاستقرار والديمومة والتلقائية. فأي تحالف، ولو غُلِّف بمبادئ وشعارات وطنية، هو قابل للاستهلاك ويتبدد بمجرد انتهاء المهمة. فمَن تسيطر عليه قيم السوق وأخلاق «الحداثة السائلة» في السياسة يتلذذ بطرح الأشياء وتهشيم التفاهمات ويتحول عنده الالتزام المديد إلى فخ ينبغي الحذر منه! وعليه، فإنّ خطورة ما أفرزته الانتخابات أنها تعكس بناءً على السيولة التي هيمنت على الوعي والثقافة اللبنانية، سهولة التضحية والزهد بالعلاقات العميقة واستبدالها بما تعده الصلات العابرة من مزايا اللحظة وما تنتجه من إبهار واستمتاع ونشوة. لذلك باتت جاذبية الهروب من الالتزامات أسلوباً ضاغطاً لضمان الاتصال بالجديد والاستعاضة بالمعروض، وهو كثير، ما يعني أنّ فكّ الارتباطات بين القوى على هذا النحو من السرعة قد سبب فقدان القيم مكانتها الاجتماعية وتحولها إلى عقود تجارية بلا شروط جزائية حتى! بناءً عليه، يكون وعود الالتزمات لا معنى لها على المدى البعيد وقابلة للنقض، تماماً كما فعلت الولايات المتحدة الأميركية بانسحابها من الاتفاق النووي مع إيران. فهي بذلك تقدم نموذجاً على تخطي ما ليس مرضياً عنه وطلب الفرص القادمة الحاملة لمكاسب متوقعة، وتجاوز العهود بلا شعور بذنب وتبعات ومسؤوليات. والقوى اللبنانية في تحالفاتها خلال الانتخابات الفائتة مسّها طائف من النماذج الغربية وسرت فيها أخلاق الحداثة بحيث بات كل شيء خاضعاً للتغيير والتفكيك والاستغناء والاستهلاك والنفاد، وما عاد هناك يقين بصحة العلاقات واستقرارها وعمرها المتوقع. هذه الهشاشة التي أصابت تحالفات ما قبل الانتخابات ستستمر، وسيكون على كل حزب وتيار إنهاء العلاقة متى ما سئم أو تعب منها ولم يكن راضياً عن سياقها. هنا، تتحول التحالفات إلى حدث تجاري محض فاقد للتجربة الإنسانية والتصورات الأخلاقية، ولن يكون لها أن تستقر على أرضية التاريخ والعاطفة. سيغادر صناعها هذه النمطية وما يحيط بها وسيكون التوجه إلى ما هو قادم.
لكن حزب الله سيقف طويلاً عند الأسباب التي تصير معها التحالفات سائلة إلى هذا الحد، وحول بطلانها السريع. وقد يكون هو أو غيره قد شعر خلال هذه الانتخابات بأنّ التحالفات القائمة تحتاج بنية أخلاقية تحتية أقوى وأصلب جذوراً. تحتاج إلى شجاعة وثقة وحب أكثر من مهارات التواصل ورغبات الالتئام والمصالح التي تخضع لأحكام الإشباع الفوري للحاجات. المفارقات التي شهدتها الانتخابات الأخيرة ينطبق عليها ما قاله يوماً عالم الاجتماع البولندي زيغموند باومان حين وصف التغيّر القاسي الذي يصيب العلاقات الاجتماعية: «الحب بطبيعته يسعى إلى إدامة الرغبة، أما الرغبة بطبيعتها فتهرب من قيود الحب».
وعليه سننتظر بعد تشكيل الحكومة وأمام الاستحقاقات القادمة كيف سيكون شكل التحالفات ما دام التفكير الطاغي على معظم القوى السياسية يقوم على قاعدة «مرقني اليوم وغرقني بكرا»!
* أستاذ جامعي