مسلسلُ خيبات الإنسان وإخفاقاته وهزائمه في التغلب على انحرافاته وعدم سيطرته إلى الآن على ذاته وجعلها المحور في المبدأ والمنتهى لأية عملية تغييرية، قديمٌ مع بداية الخليقة، ولا يزال منذ قتل قابيل لهابيل كأول جريمة على الأرض أظهرت أول تجربة ذاتية إنسانية معقدة الدوافع.
فقابيل مثَّل في جريمته بُعد المال والسلطة والخداع هذا الثالوث الذي يقابله اليوم ثالوث الاستبداد والاستعمار والاستثمار بحسب تعبير المفكر علي شريعتي في بعض نصوصه. فهذا المخلوق الآدمي لا يريد فهم كماله من خلال جزئيته الفاعلة نحو الاكتمال بالتنوع والآخر، حيث تصبح الجزئية فيما بعد كمالاً في سياق كمالات أخرى، كما يأبى الانفتاح على كل مبعثٍ للحظة إبداعية تؤسس للجدة والأصالة في الطرح والفكرة والمقاربة لقضايا الحياة والوجود، وتأسيس خطاب يليق بمستوى تغرب الفرد والجماعة وتطلعاتهم إلى ما يغذيهم فعلاً ويجعلهم يشعرون بفعلهم الإنساني كبشر أحرار ومتحررين من القيود الجاهزة التي يعلبون فيها منذ صغرهم.
بدأ انحراف الإنسان عندما تخلى عن مسؤوليته في حفظ ذاته وقدرتها على مواجهة كل الضغوطات والمغريات والحسابات والألاعيب التي تحاول خنق الذات وحبسها في حدود الأنا وتفتيت قوتها وطاقاتها لصالح الفوضوية والتلهي بالسطحيات الخاوية ضمن حدود ردات الفعل المتواترة في مجالات الدين والسياسة. وهذا ما نراه على صفحات التواصل اليوم من الجميع أفراداً وجهات، والتي أصبحت عبئاً على الحياة بدل إراحتها، والتي تستنزف فرص النهوض وإعادة الخلق والإبداع.
نرى دائماً تراجعاً لدى الإنسان وإدماناً على الالتفاف حول تقوقع ودائرة ضيقة سجن نفسه فيها وحول تمثلات وتصورات غير أصيلة ثقافياً ومعرفياً تنبع من أوهام وأشياء فرضها عقل جمعي موبوء محكوم بروح اللاتعلق بشيء أصيل يدفع نحو الفعل البشري الناشط والمثمر، بل مجرد استغراق بتراث مسموع وروائي يدغدغ الغيبية ولا يفعل في الواقع إلا بما يزيده تغرباً وقعوداً عن التقدم. فما نسمعه ونشاهده على عشرات القنوات والفضائيات من اجترار لخطاب ديني فارغ ومقطوع عن أية لحظة تاريخية وتقعيدية أصيلة، فهو حتى لا يملأ اللحظة التي يطلق فيها وسرعان ما يذوي، فيما يعاني الواقع من أزمات فكرية وأخلاقية واجتماعية. إنه خطاب رجعي يندى له الجبين ويفضح واقعاً مريراً يمعن في تجهيل وتسطيح الروح الجماعية الفاعلة.

أفرز الخطاب الديني المنغلق جيلاً منسلخاً
عن أصالته


إننا أمام عقل جمعي مشدود إلى جملة تقاليد إذا ما تأملنا ظروف تشكلها جيداً، نرى أيادي خفية خارجية من خارج الوعاء الثقافي الطبيعي قد ساعدت في بروزها بغية إفراغ المضامين الروحية والأخلاقية للمجموعات البشرية لصالح مصالح وحسابات محض مادية وإيديولوجية ضمن سياق تسليع الإنسان وتحويله إلى أداة طيعة بيد السلطة والحكام الدنيويين والدينيين، وإلى مجرد عبد لا يقوى على التمرد وهذا ما رأيناه في كثير من النماذج التاريخية التي مرت بها الجماعات البشرية المختلفة في العالمين المسيحي والإسلامي، إذ أفرز الخطاب الديني المنغلق والبعيد عن روح المسيحية والإسلام جيلاً منسلخاً عن أصالته وأضحى فيما بعد شريكاً بشكل مباشر أو غير مباشر في سلطوية حاكمة لها نفوذها الواسع التي تتحكم بلقمة العيش وخبز الفقراء وتقتّر عليهم أرزاقهم ولم تسمح إلا بما يرضي نهمها، فبادرت إلى مصادرة الوعي وتأسيس ثقافة لا تخدم الناس بل تخدم أهدافها ومشاريعها في البقاء.
نتكلم هنا عن نوعين من البشر، نوع لا يعدو كونه تبعياً ومأسوراً لمؤثرات لا تنسجم مع قرارة نفسه بل تماهى معها لعقدة أو نقص أو زيادة في الجهالة والعمى كما يحصل مع البعض من الغرائزيين الذين يندفعون وراء شعارات مذهبية أو حزبية أو عائلية أو وراء زعامات وأشخاص، وقد جعل جلّ همة إشباع نزواته وجلب الاطمئنان لنفسه عبر التمسك بالوهم في المظاهر في كل شيء من دون أدنى تفكر، فذلك «ميت الأحياء» كما يقول الإمام علي عليه السلام لأنه بلا وجود حقيقي وبلا تأثير.
وهناك نوع آخر أصيل يبحث عن متنفس له وتأثير في مجريات الأحداث التي تقوى عبثيتها عليه في عالم اليوم الذي تحكمة لغة التصنيع في كل شيء حتى في الفعل الثقافي حيث المسألة مجرد إتيكيت فارغ.
فالفعل الثقافي الأصيل والدافع للنشاط البشري المبدع المزيل للتناقضات الاجتماعية التي تعكر سلامة المجتمع وأمانه، منفيّ ومضبوط من قبل من يقف وراء الاحتكار الحقير حتى في الثقافة. فإذا ما أردت ضرب الناس تلاعب بهويتهم الثقافية التي هي لصيقة همومهم وتطلعاتهم، واسلب منهم الفعل الحي في القناعة والوعي والتأثير في صنع المشهد العام والمراقبة والمحاسبة والمساءلة والسؤال المعرفي ولو كان بسيطاً في الدين أو السياسة أو في أي سلوك اجتماعي، واجعلهم يدمنون على قوالب جاهزة في التفكير. فإنك تضرب توازنهم وبالتالي تتحكم بمدى وجودهم وتأثيراتهم وتوجهاتهم ويصبحون مجرد مشاريع للاستثمار. فكما يستثمر البعض في مشاريع التجارة والبناء والصناعة والزراعة بدأ الاستثمار في مجال الإنسان ومصادرة فعله ومحو ثقافته الأصيلة، فالتاريخ يخبرنا بما حصل مع الشعوب الأصلية في الولايات المتحدة والمكسيك وأستراليا وإفريقيا وغيرها.
إننا نشهد للأسف الإمعان في اختزال الناس وفعلهم في أفكار وشعارات وممارسات حزبية ومذهبية وطائفية وعائلية وتقديم نفسها على أنها المخلص، فيما هي تقتات على دمهم وعلى تهميشهم وعلى حساب انطلاقتهم لتغيير جاد في مجتمعاتهم وعلى تخديرهم وإبقائهم في دائرة الهمج الرعاع التي وصفها الإمام علي عليه السلام بأنها المرض الذي ينخر في جسد الأمة لصالح مشاريع التفتيت والتقسيم والطبقية بين البشر.

إذا ما أردت ضرب الناس، تلاعب بهويتهم الثقافية التي هي لصيقة بهمومهم وتطلعاتهم


هنا يوجد تكامل سلبي وتقاطع خطير بين قوى استعمارية خارجية مكشوفة وواضحة تسعى للسيطرة على كل شيء وعلى كل مقدرات الشعوب، وبين قوى تدعي انتماءها لعناوين دينية وعلمانية نابعة من أصالة معينة يعبق بها شرقنا، بينما في العمق والجوهر تمارس تسطيحاً وإلغاءً لوجود الناس وتأثيراتهم وفعلهم خدمة لمشاريعها وحساباتها التي لا تتساوق مع اللحظة الزمنية التي يفرضها الواقع المستجد، إذ لا تستطيع مواكبة الكم الهائل من التساؤلات والتصورات التي تطرحها الحياة وتستدعي إجابات معينة ربما تضع هذه القوى في مهب الريح لأنها لا تملك رؤية وأساساً ثقافياً متجذراً ينسجم مع روح وطبيعة ما تحمل من عناوين إذ بقيت العناوين مجرد مقولات فيما الواقع يرزح تحت نير تمزقات اجتماعية واقتصادية وثقافية خانقة.
ألسنا نرى يومياً جرائم معنوية ومادية متعددة، وإقبالاً على أجواء الميوعة والتحلل وحتى الإلحاد وانفصام عرى العلاقات الأسرية والمجتمعية العامة وتدهوراً في الأخلاقيات العامة وانحطاطاً وضعفاً في تركيز القيم والمفاهيم في نفوسنا والتي تحفظ شيئاً من كراماتنا المهدورة فأين من يعنيهم الأمر من أصحاب الخطابات الرنانة من سياسيين ورجال دين؟
أين هؤلاء في ملامستهم لآلام الناس ومعاناتهم الحقيقية أم وظيفتهم مجرد الكلام النظري والتجريدي والسعي وراء شهرة موهومة، واستعراض كبريائهم الفارغ الذي لا ينفع بل يعبر عن انفصام في الشخصية ومكابرة وجهل بالواقع إلا إذا كانت مصلحة البعض بقاء الحال على ما هي عليه من تشظٍّ.
إنسان اليوم تائه بين النموذج الإنساني الأصيل وما ينبغي أن يكون عليه من تحفيز واستثارة دائمة للخلق والتغيير والتجدد، وبين إنسان مصنوع تتقاذفه السياسات والمؤامرات والتحديات من هنا وهناك وتعمل على تشكيله كما تشتهي وإبقائه في مهب نهمها الذي لا ينتهي وهو ما يزيد من تعميق فجوته الوجودية وإنفاذ إرادته البناءة على صعيد الكون كله كسيد للخلائق مكرّم من الله تعالى.
ولن يكتب لهذا الإنسان التائه النجاة ما لم يتحرر من الأنا الضيقة والنظر خارج حدود الموضوعات التي أغدق المغرضون بها على الواقع لزيادة ضياعه وفوضويته من الشهرة وحب الزينة والمظاهر والسلطة وموضوعات إشباع اللذة وما أكثر أشكال هذا العالم. فلا ذات متميزة وحية إلا بمقدار تناغمها مع روح التوحيد الخالص حيث ينفض عنه الإنسان كل الانشدادات الأرضية الوضيعة ويذوب طوعياً وبشكل هادف في رؤية وحدوية جماعية مفتوحة على فضاءات وتطلعات أعلى تليق بالنفس الإنسانية وتشعرها باحترامها ومكانتها وقيمتها الجوهرية بعيداً عن أوهامها الوجودية الناقصة والوهمية إذ تجعل من الحياة مساحة للنشاط وفرصة للترقي والثورة والتمسك بالممكن والمأمول المستنديْن إلى الأصالة والمواجهيْن لكل مصنوع يحاول القريب والغريب فرضه، لأنه في حال لم تتغير الذهنية بدءاً من الوعي للآن ولما كان وسيكون سيظل مسلسل التيه الإنساني يشهد على هزائم وويلات يتخبط بها وعاؤنا الإنساني والاجتماعي المثخن بالجراحات.
* أكاديمي وحوزوي