والمراقب لمجريات الأحداث في العقود الأخيرة يستطيع أن يلمس ارتباكاً في تحديد هذا المفهوم البالغ الحساسية، الذي كان قد تأكد مع صعود ثورة 23 تموز/ يوليو، وفي حمى معارك الاستقلال والبناء الضارية التي خاضها النظام الناصري، مازجاً بين المصالح الوطنية (المصرية)، والمصالح القومية (العربية)، في منظومة واحدة، حددت معسكر أعدائها في الصهيونية والاستعمار والرجعيات التابعة، وهو المعسكر الذي لم يأل جهداً، في المقابل، من أجل العمل على إحباط المشروع الوطني/ القومي، الناصري، والسعي إلى توجيه ضربة عنيفة بهدف تقويض مفهومه عن «الأمن»، وزرع بذور التناقض بين شقيه المتكاملين افتراضاً، الشق القومي والشق القطري.
وهكذا، فسرعان ما تعرّض هذا المفهوم المستقر للاهتزاز مع هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وتداعياتها التي عكست تعثر المشروع القومي، وتراجع مفهومه عن «الأمن القومي العربي». ثم بلغ التأزم مداه مع رحيل عبد الناصر، وفي أعقاب تولي الرئيس السادات، الذي قاد انقلاباً على «الثوابت» الناصرية، القومية، وأحدث تحولاً استراتيجياً في التوجهات الأساسية للدولة المصرية. وجاء توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» أواخر عقد السبعينيات المنصرم، ليحمل في ثناياه توجيه ضربة إلى صميم هذا المفهوم، بإبرام اتفاقية «صلح» مع العدو التاريخي للأمة، وباعتبار أن «حرب أكتوبر هي آخر الحروب»، وأن «99% من الأوراق في أيدي أمريكا» على حد التعبير الشهير للرئيس المصري السابق.
ومع التحولات السياسية والاقتصادية العنيفة التي جرت على بنية السلطة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، والتي عكست تزاوجاً فجاً بين الثروة والسلطة، ارتقت قمة السلطة في مصر مجموعات عشوائية من طبقة «رجال الأعمال»، الذين هم في الأصل عصابات من ناهبي المال العام ونازفي الثروة الوطنية، المهجنين، المولَّدين في حاضنة النظام، يدينون بالولاء المطلق للغرب والولايات المتحدة وإسرائيل، ولا يخفون ميلهم لتفكيك العرى التاريخية الوثقى لمصر بالمحيط العربي، ويتبنون بلا لبس أجندة السياسات النيوليبرالية بأكملها، حتى بعد الانهيارات التي عصفت بالنظام الرأسمالي أخيراً.
وقد تزامن اكتمال ملامح هذا الوضع مع انهيار النظام الشاهنشاهي، وانتصار الثورة الإيرانية في الخارج، وصعود ظاهرة «الإسلام السياسي» داخلياً في العقود الأخيرة، ونمو قوة جماعة «الإخوان المسلمون» وخطرها. وأدت ممارسات النظام وانحيازاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي تبلورت عبر تراكمات طويلة المدى، إلى بروز ملامح، غير معلنة وإن كانت مدركة، لنظرية جديدة للأمن القومي يتبناها اتجاه مؤثر في مركز صناعة القرار المصري، وبالذات في مجموعة «لجنة السياسات» بالحزب الوطني التي يرأسها جمال مبارك، الرئيس القادم المحتمل.
لقد أدى جمود النظام، وتآكل صورته، وفشله البيّن في حل أبسط القضايا الحياتية للملايين الغفيرة التي تتعرض لموجات متتالية من الاستغلال والإفقار، وتنتهبها الأمراض وتعاني الجهل والتهميش، وعجز الحكم الفاضح عن مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وبروز تيارات المعارضة لمسألة «تمديد الحكم وتوريثه»، إلى إدراك النظام أنه لا بديل أمامه من الاعتماد على الدور الفاعل للقبول الإسرائيلي والموافقة الأميركية، الصريحة أو المضمرة، من أجل ضمان بقائه مسيطراً على الوضع في البلاد. واتجه، كما حدث في انتخابات برلمان 2005، إلى اللعب بورقة التخويف من اجتياح التيارات الأصولية لمصر، حتى يغلق ملف الاستحقاقات الديموقراطية أمام أميركا والغرب، بحجة أن الحرية في مصر تعني سيطرة «الإرهاب» ووصول جماعات العنف الديني (وهي الجماعات التي سبق له أن أطلقها من عقالها، وتبناها، بموافقة الولايات المتحدة، في معركته ضد خصومه وخصومها من اليسار)، المعادية للغرب والمصالح الأميركية وإسرائيل، إلى موقع القرار في البلاد.
وهكذا تآكل المفهوم الموروث، الذي تكرّس طوال الحقبة الناصرية لـ«الأمن القومي المصري»، المرتبط عضوياً بأمن الوطن العربي، البيئة الإقليمية الحاضنة، والذي ينظر إلى الخطر الصهيوني باعتباره خطراً على الدور والمصالح المصرية في المقام الأول، ليظهر في أحيان كثيرة أن مفهوماً آخر للأمن القومي المصري قد حل محل المفهوم القديم، يستبدله بتحالف في الداخل والخارج، غير مصرح به، مع العدو الصهيوني والإمبريالي، ومع إسرائيل ضد خطر «الإسلام السياسي»، ويتنصل علناً من الالتزام المصري بالقضية الفلسطينية، بحجة غير صحيحة، عبر عنها الرئيس مبارك في حديث نقلته صحيفة «المصري اليوم» منذ عام تقريباً، (في 5/2/2009) قائلاً: «لولا حروبنا من أجل فلسطين لكانت حال شعبنا أفضل (...) وستظل الأولوية لمصر»، ويتبنى منطلقات «مكافحة الإرهاب» و«الخطر الإيراني» و«الدول المارقة»، السيئة الصيت، كما صكّها الرئيس الأميركي السابق، مجرم الحرب جورج بوش، حتى بعد رحيله، باعتبارها «مصدر التهديد الاستراتيجي» الأساسي لأمن البلاد، الذي ينبغي صياغة العقيدة الاستراتيجية للدولة في مواجهته!
تآكل المفهوم الموروث للأمن القومي المصري المرتبط عضوياً بأمن الوطن العربي
لقد صُمم الجدار ونُفّذ بخبرات وتكنولوجيا وتمويل من أميركا، ولتحقيق غاية أميركية رئيسية هي حماية أمن إسرائيل. ومن الطبيعي في هذا السياق أن يأتي الإعلان عن البدء في بنائه من تل أبيب لا من القاهرة! فالقاهرة، عاصمة مصر المحروسة، بريئة من هذا الجدار ومن أمثاله... براءة الذئب من دم ابن يعقوب!
* أحد مؤسّسي حركة «كفاية» في مصر