محمّلة بكل الصلف المعهود عن النخبة الأميركيّة، مُنحت صحيفة «نيويورك تايمز» جائزة «بوليتزر» للصحافة في دورتها لعام 2024 عن تغطيتها لحرب الإبادة الإسرائيليّة على غزة التي وصفتها هيئة الجائزة بأنها «واسعة النطاق وكاشفة»! وبدا تخصيص «التايمز» بهذا التكريم الذي تديره «جامعة كولومبيا» في نيويورك، مستفزاً جداً بعد سلسلة من الفضائح التي مسّت نزاهة الصحيفة الأميركية الأهم في ما يتعلق بنشر مواد ملفّقة حول أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وما تسرّب عن التوجيهات الداخلية لكتّاب الصحيفة بشأن الموضوعات التي يمكن طرحها واللغة التي ينبغي استعمالها لدى الكتابة عن الحرب الدائرة. أمر استدعى جدلاً واسعاً داخل طاقم الصحيفة ذاتها، وأدى إلى استقالات ومطالبات من أساتذة في الصحافة لإجراء تحقيقات في منهجية العمل الصحافي التي تعتمدها، وأطلق احتجاجات دورية من قبل طلاب ومثقفين وصحافيين أمام مقرها الرئيس في نيويورك، وقد أصدر بعضهم نسخة نقيضة منها سمّوها «نيويورك كرايمز» (جريدة الجرائم) لرصد ما تنشره من أكاذيب ومغالطات. وكانت «التايمز» قد نشرت في أواخر كانون الأول (ديسمبر) الماضي مقالاً مستفزاً عنونته «صرخات بلا كلمات: كيف استخدمت «حماس» العنف الجنسي كسلاح في السابع من أكتوبر»، تبيّن لاحقاً أنّه مجرد سلسلة من الأكاذيب التي لم تملك عليها ولو دليلاً واحداً بعدما نفت كل الجهات الإسرائيلية المعنية ـــــ بما فيها المستشفيات ومراكز دعم ضحايا الاغتصاب ــــ ورود أي معلومات لديها حول حدوث تلك الاعتداءات المزعومة. مع ذلك، استمرت «التايمز» في الدفاع عن مقالتها التي استند إليها قادة غربيون بمن فيهم الرئيس الأميركي جوزيف بايدن لإدانة المقاومة الفلسطينية، وغطّت كاتبيها الثلاثة رغم الكشف عن انحيازهم المسبق ضد الفلسطينيين، وانعدام الخبرة المهنية لديهم. ولاحقاً، كشفت مواقع صحافية عن تعليمات داخليّة أصدرتها هيئة تحرير «التايمز» لكتّابها الذين يغطون الحرب على غزة بتقييد استخدام مصطلحي «الإبادة الجماعيّة» و«التطهير العرقي»، وتجنّب استخدام وصف «المحتلة» لدى الحديث عن الأراضي الفلسطينية. وطلبت مذكرة تسرّبت إلى العلن من صحافيي «التايمز» بعدم استخدام كلمة «فلسطين» إلا في حالات استثنائية جداً، والابتعاد قدر الإمكان عن ذكر «مخيمات اللاجئين» لوصف المخيّمات التي يُقيم فيها المهجّرون من فلسطين عام 1948 إلى القطاع، وهي مناطق تعترف بها الأمم المتحدة كمخيمات للاجئين المسجلين ويقطنها مئات الآلاف. وقد وصف كتّاب لدى «التايمز» تلك التوجيهات التي صدرت في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وحُدّثت منذئذ مرّات عدّة، بأنّها أقرب إلى تواطؤ تام مع السرديّة الإسرائيلية، ليس بشأن هجوم السابع من أكتوبر فقط، إنما أيضاً حول مجمل تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. وعكست دراسة نشرها موقع «ذي إنترسبت» في كانون الثاني (يناير)، لمضمون «نيويورك تايمز» وصحف أميركية كبرى في الأيام الخمسين الأولى من الحرب ـــ وقبل صدور التوجيهات الجديدة ــــ انحيازاً مسبقاً لدى تغطية الحدث في غزة. إذ خُصِّصت أوصاف مثل «المذبحة» و«المجزرة» و«المروعة» بشكل حصري تقريباً لتغطية حالات عشرات من مستوطنين إسرائيليين قُتلوا على أيدي الفدائيين الفلسطينيين، من دون أن تشمل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين الذين قتلوا في هجمات القوات الإسرائيلية. وذكرت الدراسة أنّ «نيويورك تايمز» تحديداً وصفت مقتل المدنيين الإسرائيليين بأنّه «مذبحة» في 53 مقالاً، في مقابل مرة واحدة فقط لوصف الضحايا من الفلسطينيين. ولم تكتف هيئة «بوليتزر» بمهزلة تكريم «نيويورك تايمز»، إذ تضمن إعلان نتائجها تنويهاً بأعمال الصحافيين الذين يغطون الحرب على غزّة، لكنّها أبقت تنويهها في إطار العموميات، وجهّلت قاتل أكثر من 142 صحافياً فلسطينياً وعربيّاً سقطوا بنيران «الجيش» الإسرائيلي، كما منحت جائزة أدبية لرواية أنجزها كاتب إسرائيلي حول معاناة الفلسطينيين في القدس العربيّة المحتلة.
وفي الواقع، فإنّ انحياز «بوليتزر» وتصهينها ليس بالأمر المستحدث، إذ كتب دوغلاس بيتس في «جائزة بوليتزر: القصة الداخلية لجائزة أميركا الأكثر شهرة» قبل أكثر من ثلاثين عاماً، بأنّ هذه الجوائز «نتاج المحسوبيّة والمنافع المتبادلة»، وتمنحها النخبة الأميركيّة المهيمنة للصحف والكتّاب الذين يحكون باسم الإمبراطوريّة.
«بوليتزر» تذكير سنوي لكلّ منّا بأن الحقيقة لا تزال أسيرة أهواء النخبة الغربيّة البيضاء، وحكماً الحكّام/ البيادق الخاضعين لها في الجنوب. نخبة يتسنى لها دوماً ممارسة الإجرام والتعذيب والقتل مع الإفلات التام من العقاب، فيما يُكافأ بعد ذلك كُتّاب هذه النخبة ذاتها لأنّهم وفّروا الغطاء، فيما يُطارَد ويُسجن ويغيّب كل من يحاول نزعه. إنها سِفاح محارم لا أكثر!