على مدار السنوات الستين الماضية، شهد مجال الذكاء الاصطناعي (AI) الكثير من التمنيات وعدداً أكبر من خيبات الأمل. لكن روّاد هذا المجال يتوقعون أنّ الذكاء الاصطناعي الحالي، الذي تغذيه الإنجازات المُحرزة في مجال تعلّم الآلة، قد يجعل «الذكاء الاصطناعي العام» قابلاً للتطبيق قريباً. يسمّى الذكاء الاصطناعي الذي بين أيدينا اليوم «ذكاء اصطناعياً ضيّقاً» (Narrow AI)، أي إنه مدرّب على القيام بأمر واحد فقط. على سبيل المثال، هناك أنظمة مدرّبة على لعبة الشطرنج، وأخرى على الكتابة، وغيرها على قراءة الفحوصات الطبية أو إنشاء الصور والفيديوهات أو إنشاء الموسيقى... لكن، لا ذكاء اصطناعي واحداً يستطيع فعل كل تلك الأمور معاً. لا يمكن أن نطلب من AI مدرّب على الشطرنج أن يرسم لنا صورة قطّة، في حين يستطيع الإنسان الكتابة والرسم والغناء والتفكير وتأدية الكثير من الأمور. كما أنّ أنظمة الـAI الحالية تفعل ما دُرِّبت عليه من دون وعي، بمعنى أنها لا تدرك معنى ما تقوم به ولا تعي نفسها أيضاً. لهذه الأمور وغيرها، يدفع الباحثون بالتكنولوجيا إلى آفاق جديدة، ترمي إلى زرع شيء من قدرة الوعي البشري في عقل الآلة.يفضّل الباحث في مجال الذكاء الاصطناعي وعالم الكومبيوتر، بن غورتزل، عدم مقارنة ذكاء الآلات بذكاء البشر. يعتقد أنّ «الذكاء البشري اعتباطي وليس مقياساً مطلقاً». وبينما يعترف بأهمية الذكاء البشري كمقياس لبعض التخصّصات مثل علم الاجتماع، إلا أنه ليس معياراً مطلقاً، وخصوصاً للأفراد مثل علماء الرياضيات الذين يركزون على جوانب مختلفة من الذكاء على حد تعبيره. ليس بن غورتزل شخصاً عادياً، بل باحث أصدر أكثر من 25 كتاباً علمياً، وحوالي 150 ورقة فنية، ومؤلف معروف بمساهماته الكبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي، ويُنسب إليه الفضل في إعلاء فكرة الذكاء الاصطناعي العام (AGI). كما يشغل حالياً منصب الرئيس التنفيذي وكبير العلماء في SingularityNET، وهو مشروع يركز على إنشاء «ذكاء اصطناعي عام لا مركزي». وبخصوص موعد الوصول إلى الـAGI، قال خلال محادثة له ضمن نقاش في «قمة AGI المفيدة» في الأول من آذار (مارس) الحالي في بنما: «يبدو أننا سنتمكن من الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام على مستوى الإنسان، وربما أعلى، في غضون ثلاث إلى ثماني سنوات قادمة. وبمجرد تحقيق ذلك، يمكن الحصول على الذكاء الاصطناعي العام الخارق بشكل جذري (يقصد نظاماً متخيلاً يصبح فيه ذكاء الآلة غير مفهوم من قبل العقل البشري ويطلق عليه ASI)».
الرئيس التنفيذي لشركة Nvidia، جنسن هوانغ، يُعرّف «الذكاء الاصطناعي العام» بأنه تقنية تُظهر ذكاءً أساسياً «منافساً إلى حد ما للإنسان العادي». خلال حضوره قمة DealBook لعام 2023 التي أجرتها صحيفة «نيويورك تايمز» في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، سأله المحاور عما إذا كان الـAGI سيتمكن من تصميم الشرائح التي تصنعها Nvidia حالياً، و«هل ستحتاج إلى نفس عدد الموظفين الذين يقومون بتصميمها؟» فأجاب: «في الواقع، لا يمكن لأي من الشرائح التي ننتجها اليوم أن تكون ممكنة من دون الذكاء الاصطناعي». وأوضح أن شرائح H-100 التي تصنعها Nvidia اليوم، صُمّمت بمساعدة الـAI. واختتم كلامه بالقول: «لا يمكن كتابة البرامج من دون الذكاء الاصطناعي، ولا يمكن تصميم الشرائح من دون الذكاء الاصطناعي». ورغم أن هوانغ قال إنّ الـAI يتطور بشكل أسرع مما كان متوقعاً، إلا أنه أضاف أن التكنولوجيا لم تظهر علامات على أنها يمكن أن تتفوق على الذكاء البشري المعقّد حتى الآن. يُذكر هنا أنّ جزءاً كبيراً من الفضل في سرعة تطوير الذكاء الاصطناعي، يعود إلى الشركات التي تصنع شرائح إلكترونية تدعى GPU (وحدة معالجة الرسوميات). ولعلّ هذه المعلومة ستفاجئ كُثراً: شرائح الـGPU القوية، التي يستخدمها عادةً مصمّمو الغرافيكس أو محبّو ألعاب الفيديو، صارت تستخدم لتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي وتسريع عملية المعالجة والتدريب. ونذكر هنا شراء مالك منصة أكس، إيلون ماسك، حوالي 10 آلاف GPU في شهر نيسان (أبريل) من العام الماضي من أجل بناء الذكاء الاصطناعي الذي يعمل عليه في شركة Xai. وأبرز الشركات التي تصنع هذه الشرائح، هي NVIDIA الأميركية، التي وصلت قيمتها السوقية إلى نحو 2.1 تريليون دولار خلال العام الحالي.
في الحلقة 2117 من بودكاست «جو روغان» الشهير، التي عُرضت في 12 آذار الحالي، قال الباحث الرئيسي في غوغل وصاحب رؤية للذكاء الاصطناعي، راي كورزويل، إن «الذكاء الاصطناعي سيصل إلى مستوى الذكاء البشري بحلول عام 2029»، موضحاً «لم نصل إلى هذا الحد تماماً اليوم، لكننا سنكون هناك، وبحلول عام 2029 سوف يضاهي أي شخص. أنا في الواقع أعتبر محافظاً في توقعي هذا. يعتقد الناس أن ذلك سيحدث في العام المقبل أو العام الذي يليه». اعتقد الناس أن هذا سيحدث، ولكن ليس بحلول عام 2029. اعتقدوا أن الأمر سيستغرق 100 عام. وتعقيباً على انتشار مقتطفات من البودكاست على منصة X، علّق الملياردير ورائد التكنولوجيا، إيلون ماسك، عبر حسابه على X: «من المحتمل أن يصبح الذكاء الاصطناعي أكثر ذكاءً من أي إنسان في العام المقبل. وبحلول عام 2029، ربما يكون أكثر ذكاءً من جميع البشر مجتمعين».
سيكون قادراً على علاج الأمراض المستعصية والشيخوخة وتغيّر المناخ


في مقابل ذلك، هناك أصوات من باحثين وعلماء حاسوب يعتقدون أن الأمور ستحتاج وقتاً أكثر من ذلك، رغم عدم نفيهم سرعة التطور الحالي. وتقول الباحثة في مجال الذكاء الاصطناعي، كاتيا غرايس، من مركز أبحاث AI Impacts: «لقد وصلنا إلى النقطة التي لا يمكنك فيها استبعاد ظهور مسار سريع لظهور «الذكاء الاصطناعي العام» في هذا العقد». وتضع احتمالاً بنسبة حوالي عشرة في المئة في السنوات الخمس المقبلة. كما يرى الباحث في مجال تعلم الآلة ومؤلف كتاب Life 3.0 الذي يتحدث عن الشكل الذي قد يبدو عليه العالم مع استمرار تحسن الذكاء الاصطناعي، والأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ماكس تيغمارك، أننا «بحاجة إلى أخذ احتمال حدوث ثورة في «الذكاء الاصطناعي العام» على محمل الجد»، ولو أنّه يبدو أقل تفاؤلاً في حدوث ذلك خلال السنوات الخمس المقبلة.



ماذا يعني الوصول إلى الـAGI؟
في أبسط تعبير، يعني إعادة تشكيل مسار الحضارة الإنسانية. الحديث هنا عن أنظمة يمكنها التكيّف مع المواقف المختلفة، والتعلّم من الخبرة، وأداء المهام خارج نطاق أنظمة «الذكاء الاصطناعي الضيقة»، وهو ما يطابق، وقد يتجاوز في نهاية المطاف، القدرات المعرفية العامة للعقل البشري العادي. ولن يقتصر هذا النظام على أي مجال واحد، بل يمكنه اكتساب المعرفة بشكل مستقل، وصياغة الأهداف، وتكييف استراتيجياته، وتوجيه مساره الخاص. في الواقع، سيعمل باستمرار على ترقية وتعزيز نفسه بوتيرة سريعة وعلى نحو متزايد. يمكن أن يساعد «الذكاء الاصطناعي العام» في حلّ أكبر التحديات التي تواجه البشرية مثل علاج الأمراض المستعصية، والشيخوخة، وتغيّر المناخ، واستخدام الموارد بشكل أفضل، وتوسيع حدودنا العلمية. ومع ذلك، فإنّ هذا النظام القوي يترافق أيضاً مع مخاطر هائلة إذا لم يتم تطويره مع ضمانات صارمة تضمن بقاءه تحت السيطرة البشرية. إن الوصول إلى «الذكاء الاصطناعي العام» يعني ببساطة أن البشرية ستسلّمه الراية ليقودها إلى المستقبل، في مسار لا يعلم أحد تبعاته. لكن، حتى الساعة، لا يبدو أن الـAGI بصورته الشاملة التي تحدثنا عنها هنا، هو ما قد نصل إليه خلال السنوات القادمة، وأكثر الأمور ترجيحاً أن تصل البشرية إلى نسخة أولية من الـAGI. والأكيد أنه بعد ذلك ستتحرك الأمور بسرعة كبيرة جداً.