1- بلقيس الحوماني مقطع من «حي اللجا»
ابتدأ الأرق عند فطوم يأخذ شكلاً جديداً... ففي كل ليلة، كان يبتدئ بصورة واحدة لا تتغير. هي صورة أسعد وقد تمدد في التابوت هادئاً ساكناً. كانت فطوم تجلس قرب الميّت مع غيرها من النسوة وقد عصبت جبينها بالعصابة السوداء، ومضت تستمع إلى المؤبنة المحترفة تتلو مآثر الميت وتستدر بتفجعها الدموع. لم تكن فطوم تبكي... ولكن أحاسيسها وكلّ مشاعرها كانت مركزة في عينيها المشدودتين إلى ذلك الجسد المسجّى أمامها والمغطّى بغطاء أخضر. وفجأة، ارتفعت صرخة حادة وارتمت سعدى على الجسد الممدد، مادّة يدها تزيح الغطاء عن وجه أبيها ثم تنكب عليه تغمره بالقبلات والشهقات. وقامت إليها النسوة يرفعنها عن جسد الميت بينما كانت هي تزداد تشبثاً بالجثة وهي تطلق صرخات هستيرية.

(شارل بريسكو نايت ـ غيتي)

ولم تتحرك فطوم، وإنما بقيت عيناها عالقتين بوجه الميت وقد اتسعت حدقتاها بنظرة ثابتة مسحورة. لم تكن فطوم قد رأت ميتاً في حياتها من قبل. وكان ذكر كلمة «ميت» تبعث دوماً في جسدها قشعريرة باردة ويدفع شفتيها إلى النطق باسم الله. «میّت»... إنه شيء غامض رهيب لا يمتّ إلى عالمنا هذا بصلة، يكمن في النهار في جوف قبر موحش، ويقوم منه عند انتشار العتمة ليجول بين القبور أو يزور منازل أعدائه ملقياً في قلوبهم الرعب... ولكن في هذه اللحظة، لم يكن ذلك الممدد أمامها مجرد ميت... لقد كان أسعد... نعم أسعد... بدا لها مختلفاً عما رأته عليه لآخر مرة في بيروت... لقد ارتدّ الآن إلى أسعد القديم... أسعد الوديع الطبيب... الرجل الوحيد الذي لمست منه الود والعطف وأشعرتها نظراته بالحنان والطمأنينة. لقد ارتدّت الآن إلى وجهه تلك المسحة التي افتقدها منذ زمن طويل... مسحة الهدوء والدعة... لقد بدا وجهه كما لو كان يصلي.

2- منى جبور
مقطع من «الغربان والمسوح البيضاء»

ودخلت الغرفة. أمسكت حدة أعصابي وبدأت أقهقه أمام حبل المشنقة، أغلقت الباب بسرعة وأخذت أقهقه بقوة وفجور. لا، صوتي لا ينسجم بعد مع المؤامرة. رفعته قوياً وبدأت أقهقه. وأخيراً هل ينهزم خيال الموت لو قهقهت حتى الغد، هل يختفي من عيني خيال الخروف المعلق في المسلخ. هل تفقد التجربة أقدامها؟ تعرّى عجزي بوضوح وألم. قفزت وشددت الزنار وقطعته عن عقدته وعضضته وعضضته وعضضته حتى استقرت أضراسي في بدنه وارتميت على السرير. انتهى الآن بطل التجربة، تمزق، أستطيع أن أعاود القهقهة والقفز. أستطيع أن أقف أمام النافذة وأفتح صدري للهواء وأزغرد مع الهواء وأرقص الفالس مع الهواء، الهواء أمير أسمر يلبس بذلة إسبانية مقصبة. له ذراعان من الحديد والحرير، وعينان بلا لون ولا قعر وصوت قوي وحنون وصدر واسع كبستان التفاح المقابل... الهواء أمير أسمر... أدرت المذياع. انتشرت موسيقى «الباسا دوبلي». ضممت الهواء إلى صدري وبدأت أرقص. جمد خيالي في المرآة، وقفت: خروف معلق في مسلخ، الوليمة الكبرى المعدة للاستمرار. هرب رأسي من النافذة. إذا لحقه صدري وخصري وأردافي أهوي بكليتي فوق الكرسي الحجري في الأسفل وأتمزق وأموت، لم يمت بطل التجربة، أمسكت طرفي المرآة. اهتزت وارتجفت وقد تترك مكانها وترتمي فوق رأسي وأتحطم وأموت. بطل التجربة لم يمت... أنا وحدي المعرضة هنا للموت… معرضة للموت معدّة للموت، مهيأة للموت. أستقبله ببرودة وبثياب النوم وبلا أقواس نصر، يدخل، يمسك عنقي يقتلعه بسهولة ويمضي. يرتطم جسدي على البلاط. تنبعث منه رائحة. تشتمه خادمة الفندق وهي تكنسه وترميه بين قشور الموز والليمون وعظام الفراريج المحمرة... جمد لعابي وأنا أحملق بالزردة المعلقة في السقف وبالنافذة وبأطراف المرآة وبخيال الخروف المعلق في مسلخ. رميت ثيابي في الحقيبة وسرت.

3- خضر نبوه
مقطع من «إنسانية الفئران»

الناس ولدوا في أسرّة من حرير وأنا ولدت في مجرور ماء. الناس ظهورهم رشيقة عضلية تنتصب كالشهب وأنا ظهري تقرقش واحدودب. الناس يعيشون مع ناس مثلهم وأنا أعيش في مقبرة تموج بالقذارة والجثث وليس فيها من الأحياء سوى أنا والفئران. واعتزمت أن أخرج إلى سطح باريس: يجب أن أعرف، بأي ثمن، من أنا؟ فإن فأراً، فلأبقى في المجارير، وإن إنساناً، فلأبقَ وسط الناس. كنت أرتدي ثوب العمل الأزرق وجزمة (ما زالت بشكل جزمة) وقبعة زال شكلها ولونها وكنت أحتفظ بأجرة شهر كامل في جيبتي الخلفية هي مجموعة من أوراق العشر فرنكات. إذن، فشكلي كان أكثر من أي وقت يحرّضني على أن أعيش في العالم الإنساني، وما عليّ إلّا أن أمارس إنسانيتي مثل كلّ الناس. فسرت في الشوارع المزدحمة بالناس في هوس ولد. وكنت أذكّر نفسي بأني إنسان بعد كل لحظة حتى لا أنسى وأنا بالمداس الملتحف بالقذارة والثياب البلدية وسط الأحذية اللامعة والطقوم وسيارات الرينو الملائكية... وغرزت فأرة أسنانها بلحم صدري وصرخت: «قبضت عليك أيها المزيف». وبقدر ما أساءني أن تتخذ الفئران مني عدواً - وأنا الذي ما عاديت أحداً - سررت أن تؤكد إحساسي بأنني لست فأراً، وقفزت الفأرة من عبّي وهي تصوصئ بازدراء عائدة إلى المجارير! لم أهتم. ومع ذلك، فقد تملّكني الخوف بعدما اختفت عن عيني. إن لم أكن من البشر، فكيف سأقدر على العودة إلى عالم الفئران وقد اكتشفوا زيف فئريتي؟ عدت أتأمل في شكلي، فأبدّد خوفي مؤكداً على أني لن أعود إلى عالم الفئران وأني إنسان مثل كل الناس ومن حقي أن أعيش في وسطهم. ولكي أحسم المشكلة، قررت حالاً أن أمارس على نفسي تجارب إنسانية. قلت لنفسي: سأرتاد المسرح الليلة ولا بأس أن أمارس التجارب الأخرى في الأيام التالية. كان مسرح الأوبرا أقرب المسارح إلى النقطة التي وصلت فيها. ولم أكن شاهدت منه طوال خمسين سنة سوى المجارير. وكان رائعاً أن أنطلق من بابه الرخامي لأزهو بإنسانيتي وسط قاعاته ذات المرايا البلورية والتماثيل الفنية وتحت أنظار شرفاته المتلألئة بالحلي والأنوار.

4- فؤاد كنعان
من «أولاً وآخر وبين بين»

كنت يومذاك في غرفتي... ولم يكن أنور يشاركني في غرفتي، ولا كان في البال. أعدّت نوشا ركوة قهوة. كانت عائدة من قداس الفصح: – الدين، الدين، عندي قبل كل شيء، قالت... واجباتها الدينية كواجباتها الجسدية سواء بسواء. هكذا تبينت في ما بعد. تؤثر الإيمان على الكفر، فيه راحة لضميرها، كما تقول، وليس فيه أي خسارة. أبسط خطيئة خطيئتها السادسة. لا أحبها. لا أكرهها. أتداخلها وأخرج، مليحاً قبيحاً، سيّان! كنت يومذاك في غرفتي، قلت، ولم يكن أنور يشاركني في غرفتي، ولا كان في البال. كانت نوشا عائدة من قداس الفصح. جلسنا في الغرفة وجهاً لوجه، نشرب القهوة ونسوكر. بشّرتني أنها اعترفت وتناولت القربان الأقدس. قلت لها: من رجع من هاتيك الدنيا وقال شيئاً؟ نهرتني: لا تكفر. دعك من الله! تحدّيتها: كلها أوهام! كالحشرات نأتي وكالحشرات نعيش ونعشّش ونكثر وكالحشرات نموت. وليس أنا أو أنت مديناً بوجوده لأكثر من سانحة لذة. وشددت على سانحة لذة. اشرأبّت نفسها. خفقت نفسي. خامرني حدس خفي بأن الواقعة واقعة وأن نوشا تدور وتدور حول قبرتي. بارحتني إلى غرفتها. عادت، بيدها مكواة. لم أحفل. بادرتني: بعد حمام الصباح صفعني الهواء. أجبتها: كل همّ إلى فرَج! قالت: أريدك تكوي ظهري. لم أفهم. وضعت المكواة قرب سريري. انطرحت كشفت لي عن ظهرها. سنون وسنون تبدّت على ظهرها. ألقت عليه قميصاً مطوياً بضع طيات. دنوت حائراً. دنوت خائراً. رجفت يدي. تحركت المكواة. ذهبت. آبت: - نزّلها. نزّلها. ارفعها. ارفعها. اكبس. بعد. بعد! لم أفهم. لم أفهم. رحت أستبين دليلاً في وجهها. طمرت وجهها. هرّبته من وجهي. لاصقتني. كدنا نهوي.
رقص الرفاص!
فتى أحلامها صرت، فارسها الأول.
خشبة خلاصها الوحيدة قبل المغيب. وصرت أشاطرها ثديين لها سائلين وفخذين مبرغلين وقلباً يحسب ويتحسّب لنسبة غلاء المعيشة... وصارت تشاطرني راتبي ورتابتي وضجري. وضجري مقعد لا يبارح، طفا أسنه على ملامح وجهي: عينان غائبتان مازجت بريقهما مشحات خيبة. خدان ثنيتان وخطوط ذاهبة آيبة حول الأنف، في الصدغين، في الجبين. وشعر يتضاءل ويشيب شيئاً فشيئاً. وسؤال يسأل: أأنا جاد؟... أأنا الإكليريكي الذي أنزله أبوه الخوري فرام (رحمه الله) من قريته راس الميّ لينذره كاهناً للرب، فعاف النذر، وعاف البيت، وعاف القرية. لا جواب لديّ، لا جواب، سوى حاضر تفاه اجترّه ورائي: خمسين سنة ملأى باللاشيء. وثلاث محاولات انتحار ولا انتحار، لا جرأة لي على هذه البطولة. ومحاولة سفر، محاولة هروب من ماضيّ، من حاضري، من غدي، ولا هروب. أبعد من غرفتي في أحد زواريب حي اليسوعيين لم أبعد. بلى، رجعت مرتين إلى راس الميّ: مرة لأدفن أمي، وثانية لأدفن أبي. ورجعت مرة ثالثة لأبيع الرزق والبيت. وبعدها رحلات بين مكتبي وغرفتي وحانة أبي نواس، على مرمى حجر من غرفتي.


5-محمد عيتاني
من «حبيبتي تنام على سرير من ذهب»

وصلت الآن إلى صالون السيدة نهاد. رائحة ويسكي وعطور نسائية وضحكات رنانة. لست وحدك. السيدة العظيمة جالسة تبتسم في زاوية الصالون. وهج ذهب على شعرها. وابتسامتها الرقيقة الساخرة هي ذاتها وسألتك وأنت تنفض عن كتفك العريضة بتلات الأزهار الحمراء والبنفسجية:
- من هو إبراهيم هذا الذي تتشاجر معه داخل ذاتك يا أستاذ عصام؟ ضحكت لكما الصحافية رينيه فرهود، بيضاء سمينة، طيبة العتمات، وعيناها نجلاوان شديدتا السواد كحبّتي عنب أسود، قالت رينيه بصوتها القوي الرنان: القصاصون المبدعون يحدثون أنفسهم دائماً بصوت عال! جلست قرب رينيه. ضغطت على يدها. الحضور زهاء خمسة عشر أو ثمانية عشر صحافياً وفناناً وهاوي تُحف. المسألة أقرب إلى المؤتمر الصحافي، لم تعطك نهاد، بواسطة الأستاذ صاحب الجريدة، موعداً خاصاً، في زاوية الصالون شيء كبير أشبه بسرير غطي بغطاء أسود واسع من المخمل الأطلس. دارت أنطوانيت، الخادمة المعهودة بكؤوس الويسكي. قطع الثلج الصغيرة ترن بين الجدران الدائرية الملساء. عالم من الذكريات ينبعث فيملأ أرجاء الصالون. قرب هذه الأريكة النبيذية الطويلة، القبلة الأولى، وفي الداخل، وراء هذه الجدران الأرجوانية الغامقة، كانت «نعم» الأولى، وتحت هذا الجدار المزين بصورة مريم العذراء، والمضاءة تحتها شمعة خالدة أقسمت نهاد لك على الإخلاص الأبدي، وعلى هذه الأريكة الزرقاء الكحلية وضعت يدها أخيراً على يدك وقالت: دعنا من الماضي يا عصام. أنت شاب أمامك مستقبل. وأنا امرأة أوشكت على الانتهاء. ولماذا التشبث بكومة رماد؟ كاذبة أم صادقة؟ لست تدري. لكنك كنت تعباً، كتبت عدة مقالات في الصباح، ودرت على عدة دائنين، تريد أن تستدين لتنفق على نهاد دون أن تدري بحقيقة وضعك المالي إذا صحّ القول إن لك وضعاً ما، بعد الظهر انصرفت إلى المطالعة في موضوعات النقد الفني والتاريخ. وقرأت صحف النهار.
قالت السيدة الحسناء نهاد م. وهي تضع كوب الويسكي على الطربيزة الصغيرة: أيها الأصدقاء، أرحب بكم في منزلكم. ولا بد أنكم قرأتم في الصحف نبأ السرير الفضي التاريخي العظيم الذي حصلت عليه مؤخراً. كم كلّف السرير؟ ليس أمراً مهماً! من سيشتريه؟ ليس أمراً ذا بال، هناك عدة مليونيرات مليارديرات، لبنانيون وعرب وعالميون، يتنافسون عليه. وتتعهد صاحبته بأن لا تبيعه إلا في مصلحة لبنان. التصفيق من محرر جريدة «النور»، وجريدة «الجبل»... أجل لن أبيع هذا السرير إلا في مصلحة لبنان لكنني لم أدعُ أصدقائي الصحافيين لألقي عليهم خطاباً في حسنات هذه التحفة الفنية النادرة. بل دعوتكم ليتشرف السرير برؤيتكم له. ونهضت نهاد م. وسط التصفيق وتقدمت من الشيء الكبير المغطى بالأطلس الأسود وراحت تنزع عنه الغطاء على مهل شيئاً فشيئاً، وحين بدا جانب من ذلك المخبوء اتضح تماماً أنه ليس بالمرة سريراً أنيقاً، ولا هو شيء فضي. إيه! ما هذا يا أنطوانيت؟ وصرخت السيدة نهاد وشعرها الأشقر الناعم يتطاير مع هزة رأسها المنفعلة: ما هذا يا أنطوانيت؟ وكأنما السيدة نهاد خافت من سرقة رهيبة أو كارثة ما، فسارعت مرتعشة لإماطة اللثام نهائياً عن الشيء المخبأ، ورأى جميع الحاضرين، بأعين مندهشة، متعجبة، أو ساخرة مزدرية، سريراً حديدياً عادياً أسود القضبان، وعليه فراش أحمر رقيق أشبه بالحصير أو أشبه بلحاف اللاجئين، وفوق الفراش ألعاب أطفال عدة: سيارات شحن زرقاء وحمراء، وكلاب ودببة من البلاستيك والصوف، زهرية وباج وبنية، ومرشة ماء بلاستيك، وجرائد قديمة عنوان إحداها - هبت - و - المانشيت سويبستيك الربيع! وقطة حقيقية بيضاء مرقطة بالأسود تمسك بمخالبها فأراً صغيراً حقيقياً تلاعبه وتقفز حوله على اللحاف وتسد عليه الطرقات والمنافذ مستعدة لالتهامه بعد هذه الملاعبات القططية الرهيبة. وصرخت السيدة نهاد: أنطوانيت تعالي إلى هنا!
-أمر يا معلمتي؟
- هل قلت لك أن تسحبي إلى هنا سرير أولادك أم سرير نابوليون الثالث؟
- بل سرير نابوليون السادس يا سيدتي. ولكن لست أنا الذي سحبته بل العتال أبو حسين الفيل. وصاحت السيدة نهاد: ليس يوجد عندنا نابوليون السادس. قال مراسل جريدة معارضة: بل عندنا شارلي الثاني لبنانياً والثامن عشر إذا بدأنا العد من شارل-كنت. ضحك بعض الصحافيين. وقال أحدهم، وهو كبير السن بعض الشيء: النابوليونات ثلاثة فقط يا سيدتي. وهناك نابوليون الذي على ليرة الذهب.
والآن أين هو السرير الحقيقي؟
نظرت السيدة نهاد، وهي تمد ذراعيها البيضاء العارية نحو أقصى الغرفة المجاورة، وانتقلت معها أنظار جميع الحاضرين: إنه هناك، أيها السادة. وركز الجميع أنظارهم على زاوية الغرفة المجاورة، وعبر السجاد العجمي، التبريزي والقاشاني الثمين، ووراء الموائد الصغيرة، وتحت التابلوهات البديعة المعلقة في الجدران، كانت في زاوية من الغرفة، كتلة متوهجة بيضاء، تتألق تحت أضواء النيون.
وتساءل عصام ناجي في دخيلته وهو يحدق من بعيد في هذه التحفة الغريبة: أتكون هذه القطع المسبوكة من الفضة، وهذه القبة من الحرير الرمادي والأحمر، وهذه القوائم الفضية المسبوكة بذوق وإتقان، هي سرير نابوليون الثالث، رجل المؤامرات والانقلابات والمطاردات، الناجح الأكبر في المعارك ضد الطبقة العاملة الباريسية والفاشل الأكبر بعد هزيمة كومونة باريس، السجين الصغير في سجون الألمان، الشارب من دماء عمال النسيج في ليون، والوالغ في دماء شعب الجزائر، والمرسل زوجته الإمبراطورة أوجيني لتنهب أموال الشعب المصري أيام احتفالات تدشين قناة السويس. نابوليون الثالث، الذي وقف ضده يوماً فيكتور هيغو، شاعر فرنسا الكبير، يصيح في وجهه وسط مجلس الشيوخ: ماذا؟ هل لأنه كان لنا نابوليون الكبير، يوماً، أصبح حتماً علينا أن يكون لنا نابوليون الصغير؟!
وكان أستاذ الحقوق الدستورية في الجامعة اليسوعية يقول لعصام ناجي ورفاقه: ولم يدرِ فيكتور هيغو، أنه بتمجيده الملحمة النابوليونية الأساسية الكبرى، إنما كان يفتح الطريق واسعة بشعره لمجيء النابوليونات الصغار، بصرف النظر عن أسمائهم.


6- عبد المطلب الأمين
أ ـــ حلمي المخمور
يا حلمي المخمور من روّعك؟/ ويا ظلام الصبح من أطلعك؟
حتى على الأحلام ران الأسى/ يا مصرع الأحلام ما أروعك!
يا كوكبي الهادي ويا جنّتي/ ما أظمأ الدنيا وما أترعك!
مات الهوى والشوق في مهجتي/ وماتت الآهات إلّا معك.
■ ■ ■
ب ــــ مناجاة
امنحي الروض في الخريف ابتسامه/ تُذکّریه أقاحه وخزامَه
وابعثي الحب للشباب مدامَه/ تسكريه وتوقظي أحلامَه
أنت مثل الربيع يغذو الكمامه/ من ندى الفجر أو رذاذ الدموع
سورة الحب للقلوب حميا/ فاملأي الكأس من شعاع المحيّا
وابعثيه مع الخيال إليّا/ تمنحيني الحــيــاة شــيــاً فـشـيـا
أنت مثل النجوم تكسو الثريا/ حلة النور وازدهار الربيع
إن سمعت هزار شعري يناجي/ ربّة الشعر في سكون الدياجي
فأشاحت بنورها عن سراجي/ ابعثي النور من خلال الرتاجِ
أَجْتني في الضلوع أزكى نتاج/ خمرة الحب في كؤوس الدموع


7-صفوان حيدر
قصائد من «أورفليس»


أ ـــ لزيتونة غافية
نامت ولم يسحبوا جثة الشمس من جفنها.
نامت ولم يشربوا ولو بعضاً من إغفائها
كان المساء يرخي سدوله منتحباً فوق
نهديها الخشبيين. وبعد بكاء طويل، وبرّ من ضباب أبيض حكيم
راح يتجمع فوق وريقاتها.
عندها، بدت وديعة كالفجر
مستسلمة كالمغيب، متعبة كيوم طويل.

ب ـــ للبندقية -الوردة:
حامل البندقية
لا تليق به رقّة القلب
وحامل الوردة
لا تليق به قسوة القلب
وحامل الاثنتين معاً
لا تليق به براءة القلب.

ت ــ ليسوع:
عارياً كالدودة خرجت من رحم أمي.
وعارياً كالدودة أعود إلى رحم الأرض.
ها قد قبلت بمجيئي إلى هذه الدنيا
فلماذا لا أقبل برحيلي عنها؟
ها قد قبِلتُ الصفعة على خدي الأيمن
فلماذا لا أقبلها على خدي الأيسر؟

ث ـــ لفصول السنة
الشتاء ثوب فرو
الربيع فجر دائم
الصيف شراب منعش
والخريف قهوة للضيوف المسنّين