تستضيف غاليري «آرت ديستريكت» في بيروت هذه الأيام، معرض بديع جحجاح (1973) تحت عنوان «الدراويش رموز المحبة». المعرض فرصة استثنائية للتعرف إلى تجربة هذا التشكيلي السوري الذي اشتغل بدأب طوال سنوات الحرب على تأصيل رموز صوفية وتوطينها في المحترف السوري. بدأت الفكرة بتمرينات تتعلق بالمولوية أو «رقصة الدراويش» من منظور جمالي، سوف يضعه تدريجاً أمام خيارات روحية أخرى، فانكبَّ على مراجعة النصوص المقدّسة وسرّ الحرف. توقّف أمام حرف «النون» في كلمة «دوران»، ثم وصل في بحثه إلى إنجاز مشروع آخر بعنوان «أفلا». يتّكئ المشروع على أربع آيات قرآنية هي «أفلا تعقلون»، و«أفلا تتفكّرون»، و«أفلا تتذكّرون»، و«أفلا يشكرون» مع عبارة من الإنجيل (المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرّة).

تشمل هذه الأعمال رؤى بصرية وحروفية مفتوحة على أكثر من مقترح فكري، تجمعها رباعية «الإنسان، والضوء، والحركة، والطاقة» في حركة الدرويش الدائرية حول نفسه، وتماهيه مع حركة الكون، وصولاً إلى التخفّف من سلطان البدن وشهواته وفقاً لما يقول ابن سينا، وتالياً فإنّ السماع هو برزخ العبور. أعمال تقودها مفردة الدوران الأزلي حول الذات أو نقطة المركز بقصد نشر الطاقة المعرفية والبصرية عن طريق الرمز. صورة الدرويش ستتحول شكلاً تجريدياً يختزل مكابدات الجسد في رحلته الدنيوية من «الألف إلى النون».
هكذا سنجد «ن» على شكل دائرة مفتوحة تحتضن نقطة المركز، وهي الحركة الأساسية في رقصة الدراويش، ذلك الطقس الروحاني الذي ابتكره مولانا جلال الدين الرومي قبل ثمانية قرون. لا تنتمي تجربة بديع جحجاح إلى الحروفية على نحو صريح، بل تسعى إلى مقاربة روح الأيقونة الشرقية باستخدام العناصر نفسها، لكن من الضفة المقابلة. هذا اللجوء إلى الصوفية عبر اللون والخطوط الليّنة والإشارات التجريدية، يبدو خياراً مفتوحاً على مقترحات أخرى، ستجد طريقها إلى محترف هذا الفنان الذي يريد كسر الحواجز بين اللوحة والمتلقّي عبر مخاطبته بمفردات الموروث الروحي للمنطقة؟ ذلك أنّ حركة الدرويش الراقص هي أيضاً محاولة لعناق الآخر بذراعين مفتوحتين. سيتكرر الشكل الخارجي للدرويش بتنويعات مختلفة. في الواقع، لسنا حيال شكل أو لون أو خطوط، بل مشروع تفكير متعدّد الأوجه والإحالات النورانية في اشتباكه اللوني مع أقدم مفردات اللغة الكونية في مغامرة بصرية لتفكيك الطلاسم والألغاز والأختام التي شكّلت الروح البشرية لجهة الحب والحق وحرية الانتماء والتفكير خارج الدوائر الضيّقة والعقائد التي تكبّل معنى الإنسانية، وتالياً فإن كل الجهات تقود إلى بوصلة الحب والعناق الكوني أو فكرة الدوران الصوفي، تلك الحركة السطحية لفناء الجسد في أقصى حالات الطهرانية. تجربة أو مغامرة ستتراكم بعمق نحو مفردات أخرى تتعلّق بروحانية الآخر والتحليق في فضاء سرمدي واحد، ففي المحصّلة ننتمي جميعاً إلى جذور شجرة واحدة. الشجرة التي ستجذبه في أعمال لاحقة إلى نوعٍ من التوحّد مع الطبيعة حيناً، وحركة احتجاج وإدانة ضد الحرائق التي أحالت الأخضر إلى ناري ورمادي وأسود، حيناً آخر. وسيجد جحجاح في نبتة الحبق الخضراء ملاذاً سحرياً لعطرٍ كوني يهبّ على الجميع بدلالات لغوية متعدّدة تتجلى في مفردات: حب. حق. حبق. عناصر تشكّل فضاء التجربة بكل أبعادها وتطلعاتها الروحانية. يقول في توصيف مشروعه: «لا يتكئ هذا المشروع على الماورائيّات، بقدر اعتنائه بقدرة العقل على اكتشاف أسرار الوجود لتحقيق طمأنينة روحيّة، تتطلع إلى متعة فكرية وبصرية باللون والخط، في كيمياء خاصة تبعث طاقة الحب المتجددة في نفس الكائن البشري من أجل البناء في رحلته الشاقة بين دائرة الذات ومربع الجهات المفتوحة على الكون». من جهةٍ أخرى، يعوّل بديع جحجاح على تأصيل مشغل تشكيلي شرقي لا يستعير مفرداته أو هويته من جغرافيات أخرى. الشرق الذي يهدينا إلى جهة الضوء رغم العتمة المحيطة بنا، في طوافٍ روحاني ينطوي على نبذ حرف الراء من كلمة حرب والتماهي مع البياض وصولاً إلى مشروع آخر قيد الإنجاز هو «وثائق عرفانية».

«الدراويش رموز المحبة»: حتى 30 كانون الأول (ديسمبر) ــــ غاليري آرت ديستريكت- الجميزة، بيروت ـــ للاستعلام: 81/680069