لا يوجد أي حالة أو واقع أو وضع أو مناسبة تصبح فيها الموسيقى غير ممكنة. الموسيقى يمكنها، أو يجب أن ترافق الحياة بكل مراحلها وحالاتها. يجب أن يولد المرء في الموسيقى، بل يجب أن تبدأ الموسيقى قبل أن يولد، منذ اكتمال أذُنه في الشهر السادس من حياته الجنينية. ويجب أن تستمر الموسيقى من دون توقف خلال مرور الإنسان في هذا الوجود، وأن تكون موجودة أيضاً في تشييعه. أما بعد ذلك، فسنعرف، كلّنا، الجواب يوماً ما. يجب ألا تتوقف الموسيقى في حالات الحزن أو أمام الموت، ومن يطالِب بإلغاء الأنشطة الموسيقية في ظلّ ما يتعرّض له شعبُ تلك الحبيبة الجميل، إنّما هو مخطئٌ في تعريفه للموسيقى ولوظيفتها.
تلي الافتتاح أمسيات لفنانين محلّيين من بينهم عبير نعمة غداً (س:20:00) في أسواق بيروت

فإن كانت الموسيقى على شاكلة «موسم الرياض» القاحل، وبرعاية رئيس مجلس إدارة «الهيئة العامة للترفيه» والنهي عن الكرامة، ذاك المقيت المتجبّر (نظراً إلى ضيق المساحة نرجو من القراء الكرام إضافة ما تيسّر من النعوت السلبية، شكراً)… في هذه الحالة، نعم، يجب أن تتوقّف الموسيقى، ليس الآن فحسب، بل حتى في يوم تحرير كل فلسطين. يجب أن تسكت تلك الذبذبات المميتة حتى لو عمّ السلام أراضينا وأصبحت «مايا» شخصياً «كِنِّتُنا»! لا يا أعزّاء، ليست هذه الموسيقى التي ندافع عن ضرورة استمراريتها. الموسيقى التي نحن مستعدون للدفاع عن وجودها، بل أن نموت من أجلِها، هي تلك التي ألّفها السوفياتي ديمتري شوستاكوفيتش في عزّ حصار لينينغراد، وسمعها أهل المدينة العالقة موتاً وجوعاً بين أنياب المحتلّ النازي. هي تلك التي انفجرت أصواتاً في دماغ زياد الرحباني عندما شاهد هَول سقوط أول قنبلة فراغية على منطقة الصنايع في بيروت، يوم حاولت إسرائيل اغتيال أبو عمّار في الثمانينيات. هي تلك التي كانت تنشدها الجوقة التي كان باخ نفسه مرشدها ذات حقبة، في مثل هذا الشهر من عام 1944، في مدينة لايبزغ الألمانية العالقة بين عناد الفاشية في آخر أشهر من حياتها، وإصرار الجيش الأحمر على سحق هذا العناد. هي تلك التي كانت تخِيطها أنامل العملاق فالتر غيزيكينغ مسجلاً بتقنية الـ«ستيريو» كونشرتو البيانو الخامس لبيتهوفن في برلين مطلع عام 1945، ونسمع فيها أصوات الانفجارات في الخارج. هي تلك التي أنشدتها عيون العبيد السود في حقول قطن البِيض تحت الشمس والكرباج. هي حفلات مرافينسكي السوفياتيّ وفورتفانغلر الرايخيّ على ضفّتَي الحرب العالمية الثانية وفي عزّها. وهي، بالمناسبة، موسيقى لا علاقة لها بالضرورة بالحدث. هي كل موسيقى تبغى النفس البشرية، لا الربح، ويجب أن تسود على مَدّ أذُننا والسمع… وهي التي نتطلّع لسماعها في مهرجان «بيروت ترنّم» الذي ينطلق الليلة كمساحة لها، فاتحاً أبوابه مجّاناً للناس ورامياً الورد إلى... غزّة. بكلامٍ صادق، واضح وجريء (في ظلّ الخنوع المستشري، صار يُحسَب الواجب الإنساني جرأة) ختمَت رئيسة المهرجان ميشلين أبي سمرا كلمتها في المؤتمر الصحافي منذ أيام: «إليكِ الورد يا مريم. إليكِ الورد يا غزّة. إليكِ الورد يا بيروت». إنه إسقاطٌ دقيق للترتيلة المريَمية الشهيرة، لأنّ الأمّ غزّة يُصلَب أبناؤها اليوم، وهي لا تتشارك مع مريم المصير فحسب، بل الصالِب أيضاً!

تقام أمسية (2 ديسمبر ـ س:20:00) في «كنيسة مار مارون» (الجميزة) تجمع زياد الأحمدية ومنير محملات وبهاء ضو

في اللحظة التي كنّا ننجز فيها ملف «مهرجان بعبدات»، حصل «طوفان الأقصى» جارفاً الدولة العبرية والأقنعة الغربية… والدورة الحالية من المهرجان المتنيّ الذي توقّف بعد الافتتاح، بفعل إلغاء الموسيقيين الأجانب مشاركتهم نظراً إلى خطورة الأوضاع. أما اليوم الخميس فهو أول أيام ما بعد الهدنة الممدَّدة (حتى كتابة هذه الكلمات، لا نعلم إن حصل تمديد إضافي أم استئنافٌ لصبّ الحقد الإسرائيلي)، وهو افتتاح «بيروت ترنّم»، في دورة مقبولة جداً لناحية المستوى، لا بل عملاقة إذا ما أخذنا الأوضاع في الحسبان (نظراً إلى ضيق المساحة نرجو من القراء الكرام تعداد مصائبنا شفهياً، شكراً). لذا، احتمال الإلغاء المفاجئ لهذا الموعد أو ذاك واردٌ طبعاً، لكن النيّة في إقامة هذه الأنشطة تبقى الأهم، ويجب أن تبقى.
المهرجان الذي يقام في مناسبة الميلاد في أماكن مختلفة من بيروت (كنائس وكاتدرائيات وغيرهما) منذ اليوم لغاية 23 كانون الأول (ديسمبر) المقبل، يُفتَتَح بـ«قدّاس المجد» للإيطالي بوتشيني، إضافة إلى الفانتازيا الكوراليّة (بيانو، جوقة وأوركسترا) لبيتهوفن، في تعويضٍ ميمون للحفلة التي كانت ستتضمن هذا العمل وفَرَض كورونا إلغاءها في «مهرجان البستان» (2020). تلي الافتتاح أمسيات لفنانين محلّيين (عبير نعمة، زياد الأحمدية، كارول سماحة، فراس العنداري،…) إضافة إلى موسيقيين مغمورين بغالبيّتهم يزوروننا من إيطاليا وكوريا الجنوبية وتشيكيا وفرنسا وإسبانيا وغيرها. الأمسيات لا تقتصر على الموسيقى الكلاسيكية الغربية، بل تشمل الموسيقى الشرقية والبلوز والترانيم الميلادية، الشرقية والغربية، بالإضافة إلى… غي مانوكيان.
الأمسيات لا تقتصر على الموسيقى الكلاسيكية الغربية، بل تشمل الموسيقى الشرقية والبلوز والترانيم الميلادية الشرقية والغربية

في كل مرّة، ومنعاً للتكرار، نعاني لإيجاد أوصاف لمانوكيان، حتى استنزفنا قاموس الهجاء، ولم يبقَ لنا من مُعين سوى معجم المديح: إن هذا العبقري، كمؤلّف، قد تخطى كل أدمغة الموسيقى في الشرق والغرب بالتاريخ، منذ ما قبل هيلديغارد فون بينغن حتى ما بعد آخر موهبة في التأليف بآخر قرنة على الكوكب. كعازف بيانو، هو يضع كلّ مَن سَوّلَت له نفسُه لمْسَ المفاتيح البيضاء والسوداء، بالترتيب الأبجدي من غيزا أندا إلى كريستيان زيمرمان وما بينهما (بحسب لائحة مجلة BBC عام 1997، وكل المواهب الجديدة التي ظهرت تباعاً لاحقاً)، في «سَيلَته الصغيرة». أما الدليل الأوضَح على حتمية انقراضنا الوشيك، فهو السرعة التي ذُيِّلَ بها الإعلان عن حفلتَيه في «بيت الدين» الصيف الماضي بعبارة… SOLD OUT.

* مهرجان «بيروت ترنّم» بدءاً من الليلة حتى 23 كانون الأول (ديسمبر) المقبل في كنائس وكاتدرائيات بيروت. الدعوة عامة. للاستعلام والحجز: beirutchants.com



مئة عام من ماريا كالاس

يحتفل العالم في ديسمبر بالذكرى المئوية لولادة ماريا كالاس

تعود ماريا كالاس (1923 ـــــ 1977). إلى الواجهة بقوّة، إذ يحتفل العالم بالذكرى المئوية لولادة الديفا، ويوجّه مهرجان «بيروت ترنّم» تحية لها من خلال أمسية بعنوان «مئة عام من ماريا كالاس» تقام في 3 كانون الأول (ديسمبر) في «أسمبلي هول» (س:20:00 ــ الجامعة الأميركية في بيروت). تقدّم الأمسية Div4s التي تتألف من أربع أصوات سوبرانو يرافقهنّ على البيانو ديفيد ديليسانتي. تعتبر كالاس بين هؤلاء الكبار الذين يتماهى إبداعهم مع فنّهم. نقول موزار بدل الموسيقى، أو نورييف بدل الرقص. وفي مجال الأداء في عالم الموسيقى الكلاسيكية، كارايان بدل قيادة الأوركسترا، وغلن غولد بدل البيانو، وكالاس بدل الأوبرا... من دون منازع! والدليل أن هؤلاء المبدعين، ما زالوا، بعد رحيلهم، مناجم ذهب لأهم ثلاث شركات عالمية تنتج الموسيقى الكلاسيكية. ولدت ماريا كالاس عام 1923 في الولايات المتحدة لأبوين يونانيّين. درست العزف على البيانو وأصول الغناء وبدأت مسيرتها الفنية في أواخر الثلاثينيات، فبلغت ذروة عطائها في الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات... وذلك في عالم الأوبرا دون سواه! لقد ابتعدت عن عوالم أخرى في الموسيقى الكلاسيكية يدخل الغناء في أساسها. الى جانب صوتها العظيم، كانت كالاس تضفي على أدائها التعبير الداعم للكلمة والموسيقى من خلال التمثيل. اشتهرت بكثير من الأدوار وخصوصاً للمؤلفين الايطاليين الذين ختموا فنّ الـ«بل كانتو» (Bel canto) في القرن التاسع عشر، مثل «نورما» لبلّيني و«توسكا» و«مدام باترفلاي» لبوتشيني و«عايدة» و«ماكبث»، إضافة إلى «لاترافياتا» و«حفلة تنكرية» لفيردي (أخرجهما للأوبرا السينمائي الايطالي الشهير لوتشينو فيسكونتي)، وغيرها. كذلك أدّت بالفرنسية «كارمن» رائعة المؤلف الفرنسي جورج بيزيه، وبالألمانية «تريستان وإيزولد»، و«دي فالكوره» و«بارسيفال» لفاغنر... إضافة الى أعمال أخرى من العصر الكلاسيكي (القرن الثامن عشر) وصولاً إلى القرن العشرين.

* «مئة عام من ماريا كالاس»: س:20:00 مساء 3 كانون الأول ـــ «أسمبلي هول» (الجامعة الأميركية في بيروت)


حفلات أساسية

الافتتاح مع بوتشيني وبيتهوفن
الليلة — كاتدرائية مار جرجس، وسط بيروت



يُفتتح «بيروت ترنّم» بـ«قدّاس المجد» لبوتشيني، وهو مساهمة مؤلف الأوبرا الإيطالي بالريبرتوار الديني على غرار معظم المؤلفين الأوروبيين. يقود العمل الأب توفيق معتوق (الصورة) بمشاركة أوركسترا مؤلفة من لبنانيين وأرمن، وجوقتَي «سيدة اللويزة» و«الأنطونية»، إضافة إلى جوزيف دحداح (تينور) وسيزار نعسي (باريتون). تلي ذلك الفانتازيا الكورالية لبيتهوفن ويشارك فيها الكوري كيوبين شونغ، الذي يقدّم أيضاً ريسيتال بيانو (5/12) نعود إليه لاحقاً.

عبير وزياد
و«الثلاثي اللبناني» وفراس وكارول



الحضور اللبناني في هذه الدورة لافت ومنوَّع: أمسية ميلادية لعبير نعمة (1/12 — أسواق بيروت)، بعدها يقدّم زياد الأحمدية مع فرقته مشروعه (Stories) المتقن تأليفاً وتنفيذاً (2/12 — كنيسة مار مارون، الجمّيزة)، يليه ماريو الراعي (كمان) والأخوان عيّاد (بيانو) وساري خليفة (تشيلّو) في أمسية كلاسيكية غربية (6/12 — قاعة كولبنكيان، LAU)، تليها أخرى كلاسيكية شرقية مع فراس العنداري (15/12 — أسواق بيروت). أما كارول سماحة (الصورة) فتقدّم أمسية ميلادية من وحي ألبومها الخاص بالمناسبة (16/12 — أسواق بيروت).

موسيقى حُجرَة
7/12 — كنيسة مار مارون، الجمّيزة



أبرز المدعوّين هذه السنة إلى «بيروت ترنّم» من خارج الحدود، عازف التشيلّو التشيكي ميشال كانكا (الصورة) صاحب الريبرتوار الغنيّ اتساعاً وتسجيلاً (رغم أنه مغمور نسبياً)، إذ يغطّي من حقبة الباروك إلى القرن العشرين وأساسه الأعمال التشيكية (معظمها صادر عند «براغا» و«سوبرافون»، رأسا الحربة في هذا المجال في تشيكيا) ومواطنه وشريكه يارومير كليباتش (بيانو). على برنامج الثنائي أعمال لبيتهوفن وفرانك، إضافة إلى أخرى للتشيكيَّين دفورجاك ومارتينو.

بلوز لبناني
8/12 — أسواق بيروت



تعتبر The Real Deal Blues Band من أعرق وأبرز الفرق المحلية المتخصّصة في موسيقى البلوز. أكثر من ربع قرن أمضته هذه الفرقة في نحت أنغام البلوز على مسامع الجمهور في الحانات والمهرجانات، وهي تضم اليوم إلى مؤسسها عازف الغيتار هاني العلايلي، إيلي أبي فرح (غناء وغيتار)، نضال أبي سمرا (ساكسوفون وكيبوردز)، فيصل عيتاني (باص)، إيليو هاشم (درامز) وفارس السخن (هارمونيكا)… تطلّ الفرقة من أسواق بيروت لتقدّم كلاسيكيات الريبرتوار، إضافة إلى أعمالها الخاصة.

أوركسترا المهرجان
17/12 — الكنيسة الأرمنية الإنجيلية



السنة الماضية، أطلق «بيروت ترنّم» مبادرة El Sistema (الصورة ـــ المنقولة عن التجربة الفنزويلية الشهيرة) لتعليم الموسيقى للأطفال «الأقل حظاً» اجتماعياً. هذه السنة، سنتذوّق أولى ثمار هذه التجربة التربوية المهمّة، إذ تحيي الأوركسترا والجوقة المنبثقة عنها أمسيةً في المهرجان. التحية للعاملين في المشروع وكل الحب والتشجيع للفتيات والفتيان المنضمّين إليه، ولن «نحَرتِق» حالياً عليه، في انتظار الرفض الكلّي والواضح للدعم المقدَّم مِن الجهة التي تمثّلها السيدة In This Together… لتَفَهُّمنا حدود، وقد ضاقت بفعل الـ«طوفان».

عودة جوناتان فورنيل
21/12 — الجامعة الأميركية



الإرث الفرنسي في العزف الكلاسيكي على البيانو حظي في السنوات الأخيرة بمواهب شابة، حملت الشعلة من الجيل السابق بجدارة، أبرزها ألكسندر كانتوروف (وهو من أصول روسية) الذي كم نتمنّى أن يُدعى إلى لبنان، وغيره كثيرون، منهم جوناتان فورنيل (الصورة) الذي حلّ ضيفاً على «بيروت ترنّم» السنة الماضية، ويعود هذه السنة لتقديم ريسيتال وحيد في برنامجٍ لم يُعلَن عنه بعد، في حين سمعنا منه السنة الماضية أعمالاً لموزار وشيمانوفسكي وبرامز (المؤلف الذي خصص له باكورة إصداراته).