ينطلق الليلة، في قرية بعبدات (قضاء المتن)، مهرجان Les Musicales de Baabdath في دورته السابعة المخصّصة، على نحو أساسي لا حصري، للموسيقى الكلاسيكية الغربية، وتحديداً فئة موسيقى الحُجرَة التي توجد تحت خانتها معظم الأشكال بين العزف المنفرِد والمجموعات الصغيرة، وتُستثنى منها فئات التأليف الأوركسترالي (سمفونيات، كونشرتوهات، قصائد سمفونية، افتتاحيات، إلخ…) والأوبرا والأعمال الدينية ذات التركيبة المعزَّزة. في وضع طبيعي، يكون النقد الموضوعي والدقيق حاجة ضرورية لتطوُّر الأمور، في أي مجال. وفي وضع استثنائي، كما هي حالنا في السنوات الأخيرة، من الأفضل أن يليِّن الكتّاب أقلامهم، وأن يتّبعوا مقاربات تشجيعية من دون أن تصل إلى خيانة الحد الأدنى من واجب توجيه الناس وعدم تضليلهم، ولا إلى مديح يتسبب في أذى لأصحاب المبادرات أكثر مما يفيدهم في سعيهم إلى الأفضل. المشكلة تكمن في أن معظم الصحافة العربية لا تغيّر سياساتها النقدية في الأوضاع الاستثنائية، لا لشدّة تمسّكها بالموضوعية، إنما لأنها دائماً تكيل المديح وأفعال التفضيل على كل ما يوجد تحت خانة «النشاط الثقافي». يكفي أن تكون الثقافة موجودة لتكون ممتازة! المفردات التي تصِف عملاقاً في العزف على البيانو، مثلاً، يمكنها أن تصِف أيضاً مُبتدِئاً في هذا المجال، كأن المفردات موجّهة إلى فكرة البيانو لا إلى مستوى العزف عليه. قبل حصولها: الحفلات ستكون «أكثر من رائعة» (العبارة «المَلك» على الشاشات والأثير ومواقع التواصل). بعد حصولها: الحفلات كانت… العبارة «ما غيرها»، التي أوصلنا الإسراف في استخدامها إلى أوضاع «أكثر من رائعة». لكن الحق يُقال، إن هذه العبارة التي تكرهها الطبيعة بشدّة وتحاسب من دون رحمة من «يشلحها عالنازل كما عالطالع»، تتجلّى بأبهى حللها وتصبح هي بدورها «أكثر من رائعة» عندما ينشدها وزير السياحة، وليد نصّار، في مديح حفلة هبة طوجي وأسامة الرحباني في «بيبلوس».
جويل فون لربر

إذاً، لو كانت الأحوال على ما يرام (علماً أنها على أحسن ما يرام في بعض البيئات اللبنانية، التي تشارك غريزياً في النعي، ربما لإبعاد «صَيبَة العين» عنها)، كانت هذه المقالة ستكون مرحِّبةً بالمهرجان المتني لمجرّد وجوده كفكرة جميلة وصحّية ومتاحة مجاناً، ومُثنيةً على القيّمين عليه و على جهودهم وتطوّعهم من دون مقابل في هذه المهمّة، لكنها ستكون، في الوقت عينه، أقسى في النقد ممّا ستقرأون في السطور التالية. بالتالي، حرصاً على تشجيعنا المهرجان من دون تحفّظات كبيرة، كما على عدم خيانة ثقة الناس برأينا، الشحيحة أصلاً، ندعوكم إلى «تنقيح» ما ستقرأونه، على نحو متزامن مع القراءة، إذ، مثلاً، إن قلنا: إنّ افتتاح المهرجان الليلة كان يمكن (ويجب) أن يكون أفضل لأنه الافتتاح (ومطلقاً أيضاً)، فعليكم أن تقرأوا: (تجربة رقم واحد). إن قلنا: إنّ تشجيع مؤلفين لبنانيين، مثل نيكولا شعنين، أمر مطلوب وجيّد لكن تحت هامش الحدّ الأدنى من الموضوعية الفنّية مقابل التخفيف من فائض الوطنية، فعليكم أن تقرأوا: (تجربة رقم اثنين). وهكذا دواليك. بمعنى آخر، نحن سنركّز على النصف الملآن من الكوب، وأنتم تولّوا التركيز على النصف الفارغ منه. الكوب موجود بنصفَيه، ويجب رؤيته بكُلّيّته، لأنه الحقيقة، هنا، ودائماً. فالنظر إلى نصفٍ لن يلغي وجود النصف الآخر ولا تأثيره. إذاً، المدة الممتدّة منذ الليلة حتى منتصف آذار (مارس) المقبل، يمكن تسميتها «موسم 2023/2024 للموسيقى الكلاسيكية» في لبنان. فما إن يُسدل «بعبدات» الستارة على الموعد الختامي من دورته الحالية، حتى يتحضّر «بيروت ترنّم» لرفع ستارته عن موعده الافتتاحي. ثم تأتي استراحة الأعياد وبعدها ذروة فصل الشتاء، ليشعّ «البستان»، منتصف شباط (فبراير)، من فوق تلك التلة المطلّة على لبنان جغرافياً وعلى الجمال فنّياً. بهذا، يلعب «بعبدات» دور «المَرفع» لبدء الصوم الكبير عن البشاعة والتفاهة، فيصبح «البستان» حكماً «العيد الكبير»، وبينهما ترنّم بيروت. هذا جيّد، لكن فعلاً إنها لمفارقة أن يكون حضور الموسيقى الكلاسيكية الغربية بهذه الغزارة نسبةً، مثلاً، إلى الجاز! لماذا الجاز مهمَّش لهذه الدرجة في السنوات الأخيرة؟ الله، الذي يحبّ الجاز ربما أكثر من الكلاسيك، أعلَم.
هكذا، ينطلق الليلة Les Musicales de Baabdath (الذي يعتمد منظّموه ترجمة عربية لاسمه تحتاج إلى بعض التمحيص، وقد تناولنا هذه النقطة بالتفصيل السنة الماضية) بأمسية لـ«أوركسترا بيروت لموسيقى الحُجرَة» (تتألّف من موسيقيين مستقلّين ومن تشظّي الأوركسترا الوطنية) التي تضمّ 11 آلة من عائلة الوتريات (كمان، ألتو، تشيلّو وكونترباص) وتقدّم برنامجاً لا «يملأ» فتحة يَدَي الافتتاح، أي افتتاح، الذي على مقياسه تُزان الدورة عادةً. حصّة الأسد للمؤلف اللبناني الشاب نيكولا شعنين الذي استمعنا إلى بعض أعماله المنشورة على الإنترنت (بعضها موجود في برنامج الليلة) والتجربة لم تكن مشجِّعة إطلاقاً. ربما هي الذائقة، ولعَنَ الله من قال إنها «لا تُناقَش»، وربما لا. نسمع ثلاث مقطوعات متتالية لشعنين ومن بعده… «الطوفان». إنه عنوان أوراتوريو للفرنسي سان-سانس ونسمع في الحفلة مقدّمته الأوركسترالية التي لا تترجِم بمزاجها الطوفان بحد ذاته، بل التأمل الهادئ به، وللكمان المنفرِد دور بارز فيها. بعد «الطوفان» (والعبارة اكتسبت معنى حقيقاً لا خرافياً في الأيام الأخيرة) تأتي مقطوعة المؤلف البلجيكي المغمور لوي مايور، الذي كتب أعمالاً من تلك القليلة في الكلاسيك التي يشارك فيها الساكسوفون (منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر حتى اليوم)، نسمع إحداها ويتولّى العزف فيها، كما في «فقرة شعنين»، خافيير أوفييدو بقيادة الفرنسي جان بيار شميت الذي يقود المجموعة في عمل ختامي هو سمفونية الوتريات العاشرة لمندلسون. العمل ينتمي إلى أولى تجارب الألماني في التأليف (إنه جزء من دزينة أعمال من هذه الفئة)، وهو في الواقع يحمل بذور موهبته، لا نضوجها اللاحق (كما هي حال سمفونياته الخمس، تلك «الأوركسترالية»، على سبيل المثال). إنه عمل لطيف، من حركة واحدة (الوحيد بين أشقائه) تنقسم بدورها إلى مقدمة متجهّمة بطيئة تمهّد للجزء الثاني النشِط، وهي لا تتماهى مع الحقبة التي تنتمي إليها (الرومنطيقية) بل تحاكي تلك السابقة (الكلاسيكية).

هرقولس غوميز م

الأمسيتان الثانية والثالثة تشكّلان نقطة ارتكاز الدورة وتحملان توقيع عازف البيانو الشاب الموهوب آرون بيلسان الذي يعود إلى المهرجان لإكمال المهمة الجبّارة التي بدأها السنة الماضية: أداء الكتاب الثاني من العهد القديم للكلافييه، أي أعجوبة باخ (هنا مثلاً يمكن القول إنها أكثر من رائعة ونكون مقصّرين) وإحدى أكبر وصاياه الموسيقية والنظرية The Well-tempered clavier. السنة الماضية، سمعنا المقطوعات الـ48 التي يتألف منها الكتاب الأول (سحر الحيّ وضخامة الإنجاز لطّفا بعض الملاحظات على الأداء العام) وهذه السنة يؤدي في أمسيته الثانية الكتاب الثاني من هذا «الإنجيل» (18/10 — كنيسة مار الياس، القنطاري). السنة الماضية قدّم بعد باخ أمسية ثانية، خلت من باخ إلّا في ختامها (الـbis من خارج البرنامج)، أما هذه السنة، فتأتي أمسيته الثانية قبل تلك الباخية بثلاثة أيام (15/10 — الكنيسة الجديدة، بعبدات)، وفيها برنامج مختلف كلياً ولا يقلّ ضخامةً وتطلباً، حيث نسمع عملاً حديث النَفَس لكوريغليانو (1938) مبنياً على الحركة الثانية من سابعة بيتهوفن (راجعوا تسجيل الفرنسية إيلان غريمو — 2003) وكذلك أعمالاً لغلاس ولِيسْت وثنائي العشق كلارا وروبرت شومان (الأخير محوَر ألبوم آرون الجديد، لكن في عملٍ مختلف) وغيرهم. في 24 الجاري، يزورنا من ألمانيا رباعي البيانو DSO Berlin (الكنيسة الجديدة — بعبدات) وعلى برنامجه ثلاثي لشوبرت والرباعي الأول للبيانو لموزار ورباعي البيانو االممتاز لشومان، بالإضافة إلى عمل (ثلاث قطع للتشيلّو والبيانو) للبناني هُتاف خوري (1967)، وهو من المؤلفين الأبرز والأكثر جدّية من الجيل الثاني إذا صح التعبير. للرباعي المذكور إطلالة ثانية في 27/10 (كنيسة مار جرجس — الباشورة) يعيد فيها أداء شومان، بالإضافة إلى رباعي البيانو لمالر (العمل الوحيد للمؤلف النمساوي السمفوني في هذه الفئة، التي كان يعدّها تحدّياً جدّياً في مجال التأليف) بالإضافة إلى ميسيان (مقتطف من «رباعي لنهاية الزمن» الشهير) ومارتينو (ثلاثة ثنائيات للكمان والألتو) وإعدادٌ من توقيع بوزوني للفانتازيا الكروماتيكية والفوغ التابعة لها، لباخ (الإعداد من الهاربسيكورد للتشيلّو والبيانو، وهو ليس من أحسن ما أنجز المؤلف الإيطالي في رحلة إعداده المجيدة لبعض أعمال الـ«كانتور»).
الافتتاح الليلة بأمسية تقدّمها «أوركسترا بيروت لموسيقى الحُجرَة»


يُستهَل الشهر المقبل بأمسية من «مطبخ» المهرجان (1/11 — الكنيسة الجديدة، بعبدات)، وهي نتيجة مشروع تعاون مع جهات محلية وأجنبية بعنوان «أوتار الأمل». المبادرة هدفها احتضان الموسيقيين المحلّيين (وتريات وبيانوهات) الذين يجتمعون لأداء برنامجٍ لم يُحدَّد بعد. بعد استراحة لأكثر من أسبوع، نحيد قليلاً عن الكلاسيك لاستقبال هرقولس غوميز من البرازيل، في أمسية (8/11 — الكنيسة الجديدة، بعبدات)، نكتشف اتجاهها ومضمونها سوياً في الحفلة التي تأتي تمهيداً لأمسية الجاز اليتيمة مع Aurignac & Sánchez Duo (بيانو وساكسوفون) التي تقام في 14 الشهر المقبل (الكنيسة الجديدة، بعبدات). العودة إلى سكة المهرجان الكلاسيكية تأتي من باب آلة الـHarp مع السويسري جويل فون لربر الذي يؤدّي برنامجاً منوّعاً جداً (22/11)، فيه كثير من الإعداد لهذه الآلة، من أشكال أخرى بطبيعة الحال… والأمسية للجمهور الذي لا يوافق سترافينسكي الرأي بالآلة وعازفيها! أما الختام، فمع تركيبة فريدة مع أنها غير نادرة تقوم على عائلة الساكسوفون (هناك عدد من التجارب من هذا النوع ظهرت في السنوات الأخيرة)، وهي محاكاة تقريبية لرباعي الوتريات. هكذا يؤدّي الرباعي الألماني Arcis (سوبرانو، ألتو، تينور وباريتون ساكس) أعمالاً معَدَّة تماشياً مع التركيبة، لموزار وشوستاكوفيتش وغرشوين وغيرهم (29/11).
في المهرجانات كما في الكتابة، أكثر ما يتطلّب جهداً هو الختام ليتماشى مع المقولة الشهيرة. اعذرونا هذه المرة، لا وقت للتفكير في ختام مسكيّ للمقالة. الأخبار تتوالى بسرعة من جهة الجنوب، وهناك كلام عن بداية تاريخ جديد في المنطقة. وما نراه ربّما يكون مسك البداية.

* Les Musicales de Baabdath: بدءاً من الليلة حتى 29 تشرين الثاني (نوفمبر) ـــ قرية بعبدات (قضاء المتن)ـ للاستعلام: 71/467655