بالمصادفة، يأتي هذا المقال مباشرةً بعد الموضوع الذي تناولنا فيه الموسيقى في إيسلندا. اليوم موضوعنا موسيقي إيراني، مع إضاءة على فرقة «رستاك» الجميلة قلباً، قالباً وصوتاً (راجع المقالة في مكان آخر من الصفحة). بالمصادفة تجاور الموضوعان، ومعهما البرودة والحرارة.بدايةً، لا يجوز النظر إلى إيران من زاوية سياستها الداخلية (وهي رجعية وظالمة في أكثر من جانب، لا شك) حصراً، وبالتالي رفْض «النظر» إلى كمّ هائل من الجمال والإبداع الإيراني، الذي وُلِد قبل الثورة الإيرانية بألفيّات وسيعيش ألفيّات بعدها. كذلك، لا يجوز رفْض إيران ربطاً بسياستها الخارجية، التي ينتج عنها، ككل السياسات الخارجية للدول، مصالح للدولة على حساب شعوب أخرى أحياناً. علماً أنّ في هذا السلوك تبقى إيران، بتجرّد، «دحّة» أمام غيرها، وفي لائحة أولويات مناهضة السياسات الخارجية للدول، تأتي بالتأكيد بعد كثير من الدول التي لا تلقى ما «تستحقّه» من مناهضة، بسبب التشويش والتعتيم والخبث الإعلامي المسيطر بإحكام على العقول الكسولة أو البريئة أو الساذجة.

دينا دوستي من فرقة «رستاك»


من فيلم «الصمت» للسينمائي الإيراني محسن مخملباف

سنقول بدون موضوعية: من أجمل الموسيقى التي صنعتها الشعوب، تلك التي نجدها في آسيا الوسطى وبعض الامتدادات شمالاً وشرقاً، وكذلك غرباً، في مناطق تواجد الأكراد. إنها أجمل من الفولك الأوروبي بكثير، ومن الأفريقي ومن اللاتيني بقليل، ومن الأقصى شرق آسيوي (بعد الهند شرقاً) بما لا يقاس، ومن الأميركي الشمالي بما لا يجيز المقارنة… الشغف الموسيقي موجود عند كل الشعوب، منذ أن وُجِد البشر، لكن شغف شعوب المنطقة التي نتكلّم عنها له طابع خاص: هو مُعمَّم (من «عام» وليس «عمامة»… أي، في كل بيت يمكن أن نجد موسيقياً أو أكثر)، حيوي بالنسبة إليها، صادق، قويّ وحامٍ، ينطلق من ذروات ممارسة الحياة، ذروات الحزن والفرح والشقاء والظلم والتعب والعلاقات على أنواعها والعاطفة. هو شغفٌ تنتجه الطبيعة والمجتمع على شكل أصوات نسمّيها موسيقى شعبية، عبر إنسانٍ نسمّيه موسيقياً شعبيّاً. عند هذه الشعوب، لا تزال الموسيقى الشعبية، بنسبة مقبولة، تخضع للتعريف القديم: الموسيقى التي يصنعها الشعب كجزء من الحياة، بخلاف التعريف الحالي المهيمِن على الموسيقى الشعبية في العالم: الموسيقى التي يستهلكها الشعب كجزء من السوق. فواقعُ أنّ «في كل بيت آلة أو أكثر وموسيقي أو أكثر» له أسبابه، أبرزها، على الأرجح، التطوّر المذهل والقديم في صناعة الآلات الموسيقية في هذه المنطقة لناحية التنوّع والفروقات البسيطة جداً أحياناً بين أعداد يصعب إحصاؤها من النماذج، بشكل خاص الآلات الوترية (التي تُعزَف نقراً، ثم تلك المسحوبة بالقوس)، ثم آلات النفخ والآلات القرعية (مثل التُنبُك، وبالأخص الدفّ الإيراني الذي يفوز، بنظرنا، بمرتبة أجمل صوت آلة إيقاعية من صنع الإنسان، بالأخص إن استُعمل بأعداد كبيرة). وتأتي أخيراً الآلة الأهم: الصوت البشري. في هذه الجغرافيا، ثمة خلطة بين عناصر الطبيعة كافة، تعطي نبرات الأصوات المنشِدة لوناً مميزاً (الأصوات البلغارية لها هذه الميزة)، ويأتي بعدها العيش في وعر الجبال وصفاء السهول ليضفي على النبرة إحساساً خاصاً، هو مزيجٌ من التعب والعناد والصبر والحب والألم والصفاء. قد يأتي يومٌ يثبت فيه العلم أن هذا الوصف ليس شعراً، بل «حقيقة علمية» ناتجة عن مراقبة غير علمية تحتمل ربما هامشاً من عدم الدقّة.
في إيران والدول المجاورة، كمّ هائل من الفنانين والموسيقيين الذين ينتظرون (أو لا) من يكتشفهم. والناس هناك، كل الناس، يحبون الموسيقى بشكل عفوي وصحّي. لو لم يكن الأمر كذلك، لما انسحبت هذه الحقيقة على السينما الإيرانية والإيرانية/ الكردية التي تبنّى الغرب حفنة من الأسماء لأنه لا يستطيع تجاهلها (بينما يتجاهل عشرات المبدعين لأنه ربما «يخشى» السينما الإيرانية بما أنها، قبل الثورة وبعدها، أجمل سينما في العالم) مثل «سكوت» (محسن مخملباف) و«تائهون في العراق» (بهمن قوبادي) و«انتصاف القمر» (قوبادي أيضاً، وهو تحية غير مباشرة كلياً لموزار في الذكرى الـ250 لولادته عام 2006) وغيرها. أضرّت الثورة الإيرانية بالموسيقى بشكل ظالم وفوضوي أيضاً.


مثلاً، تروي الإيرانية فيروزه خسرواني (على أمل أن نكون قد وُفّقنا بكتابة شهرتها بالعربية) في وثائقي من إخراجها بعنوان «تصوير شعاعي لعائلة» (2020) كيف أن أمّها التي تأثّرت بالثورة الإسلامية «مَنعَت» (بمعنى أبدَت انزعاجاً ونفوراً كبيرَين) والدها الطبيب اليساري التقدّمي من الاستماع إلى… باخ! راح في مرحلة أولى يضع السماعات قبل أن «يطفئ الموسيقى» نهائياً! أليست هذه جريمة بحق هذا الإنسان والإنسان؟ وبما أن السبب ليس شخصياً، فمُرتكب الجريمة ليس (فقط) الزوجة! مع المفارقة أنّ باخ هو المؤلف المفضّل لدى الإيرانيين، والأمثلة كثيرة، من عازف البيانو رامين بهرامي إلى مطلع فيلم Hit The Road الذي يوقف القلب (پناه بناهي، نجل جعفر بناهي) وألبوم «ديوان الرومي وباخ» الممتاز (داوود آزاد). كذلك، يروي الموسيقي الراحل قربان سليماني (1920 — 2008)، وهو روح الله عن حقّ كأي فنان صادق، أنه عندما كان في الـ 43 والـ 44 من عمره (أي قبل الثورة الإسلامية بـ15 سنة)، مرّ به أحد الملالي وقال له بألّا يعزف بعد اليوم على آلته (دوتار، آلة وترية اسمها مستمدّ من عدد أوتارها، حيث «تار» تعني «وتر» و«دو» تعني «اثنين»، وهكذا دواليك بالنسبة إلى سه‌تار وجهارتار وپنجتار وششتار… الذين يلعبون طاولة الزهر/ النرد سيجدون هذه التسميات مألوفة). سأله: وهل الموسيقى شيطانية؟ رد المُلّا: كلا، لكنها ليست إلهية. توقّف سليماني المسكين 15 سنة عن العزف. بالنسبة إليه، بدون موسيقى، الحياة جحيم. خلال هذه السنوات، فقدَ متعة الحياة التي كان يراها جميلة (أو كانت تصبح هكذا كلما مسَك الدوتار) رغم الفقر والعوَز الذي يعيش فيه مع زوجته. بعد سنوات جهنّم، مرّ به زميلُ «ذاك الشيطان» في المؤسسة الدينية، وكان يعلم أنه موسيقيّ، وسأله عن سبب توقّفه عن العزف، فأخبره. غضِبَ المُعَمَّم وتمنّى عليه العودة إلى العزف. سأله سليماني: أليس عزف الموسيقى خطيئة؟ ردّ محدّثه: أنت عُد إلى العزف، وأنا أتحمّل مسؤولية خطيئتك. وعاد بعدها قربان ليقدّم عبر أنغامه قربانَه إلى الله، واصفاً التجربة بهذا الكلام: «الفنان الحقيقي الذي في روحه عشق، عندما يعود إلى آلته بعد انقطاع، سيطير عالياً إلى عالمٍ آخر وينسى أين هو». بالمناسبة، يبدو أن بعض رجال الدين (وربما حزب الله أيضاً) لا يعلمون أن ثمة عازف تار إيرانياً مشهوراً جداً ويحب الغناء أيضاً، هو علي خامنئي، إن كان الاسم يقول لكم شيئاً.
في هذه الجغرافيا، ثمة خلطة بين عناصر الطبيعة كافة، تعطي نبرات الأصوات المنشِدة لوناً مميزاً وإحساساً خاصاً


في الموسيقى كما في غيرها، الأخطاء المرتكَبة مشينة. كيف يمكن سجن جعفر بناهي الذي ليس قليلاً عليه أن تُفرَش دربه بالورود أينما مشى؟ حتى في موضوع عقوبة الإعدام (مسألة غير محصورة بإيران)، لن تجد إيران (والعالم) أفضل من مخرجيها لطرح هذه المسألة بإبداع فنّي وسينمائي وذكاء ونية طيبة وإنسانية وتقدّمية، كما في «نُزهة بقرة بيضاء» (لبهتاش صناعيها ومريم مُقدَّم — 2020) و«الشر غير موجود» (محمد رسولوف… الذي سُجِن أيضاً — 2020). من أراد أن يقضي على هذا البلد (كحضارة إيرانية وفارسية وليس فقط كنظام)، عليه أن يشجّع (أو يسكت عن) هذه الممارسات الشاذة، التي يؤدي تراكمها إلى كارثة، لا لأن الحياة تربح دائماً فحسب، بل لأنها (أي الممارسات) تعطي الأعداء ذرائع في غاية المجّانية. أضف أخيراً ذاك الأسلوب الرديء في الدفاع عن الشواذ في إيران، الذي يلجأ دائماً إلى مقارنتها بأنظمة أسوأ، كالسعودية مثلاً. لا ضرورة للعودة إلى أعلى الصفحة... نعم، أنتم تقرؤون «الأخبار».