«رستاك» (Rastak) فرقة إيرانية نتناول تجربتها اليوم. في الواقع، هناك الكثير من الفرق في إيران والبلدان المجاوِرة لها، واختيار «رستاك» ليس له سبب محدّد يبرّره. فلا إصدار جديد للفرقة، ولا هي آتية إلى لبنان، وليس هناك حدثٌ مهمٌ يخصّها من أي نوع، يمكن أن يكون دافعاً لاختيارنا لها. قد يظن بعضهم أن الاختيار يأتي اعتباطياً. وهو كذلك. نعم، اختيارنا لـ«رستاك» اعتباطي، وليس له أي مبرّر سوى أنها صاحبة تجربة محترمة تستحقّون أن تطلعوا عليها وتستمتعوا بها، تماماً كما تستحق، هي، إضاءة تشجيعية تسهم قليلاً، معنوياً ربما، في استمرارها.بدايةً، أكثر ما يلفت في «رستاك» (تعني النبتة الجديدة في أطراف الشجرة، التي تنمو لتصبح أكبر من الشجرة) هو كيفيّة إحيائها التراث الموسيقي الإيراني. من هنا يجب التوقّف قليلاً عند إشكالية إحياء التراث والفولكلور عموماً. أولاً، هذه المهمة هي أصعب ممارسة فنّية على الإطلاق، وخصوصاً في الموسيقى. فالشعوب إمّا تجترّ تراثها بدون تعديل، فيبقى مكانه ويسمّرُها جنبه، فيحصل التخلّف الحضاري. إمّا تخجل بتراثها (احذروا مَن هُم أبطال العالم في هذا المجال؟!) فتتركه يموت، أو يبقى حيّاً بصعوبة من دون تطوير عند جماعات تشعر أنها منبوذة في بيئتها، أو يتمّ تبنّيه على شكل صرعات وموضة من خلال التعاطي معه كعنصر «إكزوتيك» (وهنا أيضاً نحمل لقب بطولة العالم)... أو يبقى حياً لكن بدون تطوير يُذكر ولا إضافات كبيرة عند الشعوب التي لا تخجل بتراثها وتُرزَق بفنان حقيقي للقيام بهذه المهمّة، مثل تجربة الراحل الكبير صباح فخري في سوريا، وكذلك ملك الملوك نُصرَت فاتح علي خان في باكستان. أو تكون الشعوب محظوظة بمبدعيها الذين يُدخِلون التراث إلى أدمغتهم الكبيرة من جهة ويُخرجونه فنّاً راقياً عظيماً متيناً، شعبياً وعصرياً وقابلاً لمسّ شعوب غير التي صنعته: جوبيم في البرازيل، بياتزولّا في الأرجنتين، فيروز والأخوَان رحباني في لبنان، زياد الرحباني الذي يجب أن نعترف له بإبقاء فنّ العتابا حيّاً من خلال الكلمة (إدخال مواضيع غير التحدّي والحب كما في الزجل، مثل السياسة والاجتماع والمرأة والتلميح الإيروتيكي) والموسيقى (ابتكار لازمة آلاتية ذات نبْض أقرب إلى العصر والمدينة، من اللازمة المغناة التي «تجرّ نفسها» بين بيتَين وتصلح لزمن السردات الطويلة في القرى). أو أخيراً، دخول العمالقة من الموسيقيين الكلاسيكيين على الخطّ لصنع ما يأخذ ملامح عالمية ويدوم للأبد انطلاقاً من التراث، كما حصل في أوروبا بأسلوب مباشر أو شبه مباشر على يد الغالبية الساحقة من المؤلفين، أبرزهم بارتوك ولِيسْت وبرامز ودفورجاك وحتى بيتهوفن (أعماله من فئة الـ«ليد») وغيرهم، أو غير مباشر مثل متتاليات باخ — وغيره — التي أخذت من الموسيقى الشعبية فقط إيقاع الرقصات، ونادراً بعض الألحان (وعند باخ تضاف أيضاً الكورالات الدينية للتراث البروتستانتي، التي كان يولّفها لاستخدامها في ختام أعماله من فئة الكانتاتا). هناك أشكال أخرى من إحياء التراث وأسماء نجحت في المهمة بنسب متفاوتة في كل البلدان. أسلوب فرقة «رستاك» في العمل يكمن في البحث العميق، التنفيذ المتين والمتقَن، إدخال محفّزات غير موسيقية واعتماد وسائل تناسب عصر اليوم (تصوير حِرَفي لكن ليس تحت خانة الـ«فيديو كليب» بشكله التجاري المعتمد، النشر الرسمي على مواقع التواصل وإدارة فنية مهنية)، وأخرى تراثية وأيضاً غير موسيقية لكنها تتناسق مع الجو العام (الأزياء… وهي لوحات فنية بحدّ ذاتها)، بالإضافة إلى اعتماد تحريك مبنيّ على أسلوب المنمنمات في الفن الفارسي الخاص والخلاب، لمرافقة «قصة» إحدى الأغنيات. مواهب مكتملة في العزف. شغف وصدق. تطعيم فائق الدقّة (لناحية الضرورة ونسبة التدخُّل) لـ«مطيّبات» من خارج المطبخ الإيراني والشرقي. النتيجة: صورة بانورامية شاملة عن الفولكلور الموسيقي لكل المقاطعات الإيرانية وبعض الجوار، بميّزات أهلها وإثنياتها وخصوصياتها الموسيقية واللغوية.
تتألف الفرقة التي تأسست عام 1997 من سبعة أعضاء. خمسة رجال وصبيّتان، يعزف كل منهم آلة أو أكثر (استخدموا في تجربتهم نحو 50 آلة تراثية وآلات أخرى)، ويشارك جميعهم في الغناء، مع وجود منشد أساسي قد يتبدّل بين أغنية وأخرى. علماً أنها ضمت العديد من الأفراد سابقاً وشاركتها المسرح والتسجيل مجموعة كبيرة من الضيوف. في الحياة، هندام أعضاء «رستاك» عصري وعلى المسرح يلبسون أزياء تقليدية جميلة، وقد شاركت فرقتهم في مهرجانات ودُعيَت لإقامة حفلات، بالإضافة إلى إيران، في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية واليابان وتركيا وبعض الدول العربية (العراق وعُمان والإمارات) وغيرها. بين عامَي 2007 و2021 أصدرت الفرقة ألبومات عدة، استعادت فيها بأسلوب جذّاب عشرات الأغنيات التراثية من إيران ومحيطها: من التراث الكردي في إيران (بمختلف لهجاته)، من كردستان، وأذربيجان، ومن المقاطعات الإيرانية الـ31 مثل لرستان وخراسان ومازندران وبلوشستان وبوشهر وفارس وخوزستان وهرمزغان، بالإضافة إلى موسيقى القبائل (قبيلة قشقاي) واللغات المنطوق بها في إيران ومحيطها (الدرية، العربية، الأذرية، التركية…). لا تقدّم «رستاك» صورة شاملة عن الموسيقى التي تقدّمها، بل نماذج مشغولة جيداً منتقاة من بين مئات الأعمال التي رافقت تطوّر هذه الحضارة أو ذاك القوم منذ آلاف السنين. «رستاك» هي مدخلٌ إلى كنز لا يُحصى، واكتشافه يجب أن يحصل «كَمَري، كَمَري».