أما مشاهد القتل والدمار المتكرّرة في أرض الواقع، فقد تركها المؤلف على ما يبدو لشاشات التلفزيون ولهواة ملء الروايات بالدماء من الكتاب.
تُروى أحداث العمل على لسان عامل في حديقة حيوانات وهو صديق قديم لمديرها. وعند الاقتراب من نهاية العمل، يتّضح أن الرّاوي يعمل مترجماً في الحديقة، جمعه الحيّ الروسي مع مجموعة من الحيوانات منها كلبة المدير بيتروفا وكلب أبو علي سليمان صاحب دكان الألبسة ومعلم اللغة الفرنسية. وكان للزّرافة النصيب الأكبر من الأحداث لما تحمله من رمزية، لتمنحنا فهماً آخر للغة التّخاطر بينها وبين بقيّة الشّخوص من حيوانات وبشر. التّخاطر الذي ظلّ قائماً على الحاجة القصوى للخلاص مهما كان الثّمن وهو خلاص يائس ظلّت المخيلة تجترحه لا أكثر.
لعبت الحيوانات في رواية «الحي الروسي» دوراً مهماً في تحفيز السرد ولم تكن أبداً حيوانات للزينة، ومثالنا على ذلك قطة عصام المُسماة «غزال» في المشاهد الأخيرة من الرواية، إذ استدرجت عصام للسطح كي يلتقي الناس المجتمعين في حديقة الحيوانات عشية ذهابه إلى الغوطة. ولولا عودتها وحدها، ما كنا لنعرف شيئاً عنه. وكذا كان دور الكلبين في نشر المشاعر الجديدة في الحي الروسي، فضلاً عن دور الزرافة كمرتكز للسرد طيلة أحداث الرواية.
تُروى أحداث العمل على لسان عامل في حديقة حيوانات
برأينا أنّ الأحداث تصبّ في مجملها داخل فكرة عامّة هي التّعايش، فالسكّان داخل الحي الروسي من قوميات وديانات مختلفة، وكأن الحيّ الرّوسي هو عالم صغير داخل العالم الأكبر. كما أنّها أماطت اللثام عن قضايا تتخبّط فيها المجتمعات العربية كالاضطهاد الذي تعيشه المرأة وغيرها من مواضيع تطرّق إليها الكاتب من خلال عمله المختلف المتقن الذي يتطلب من القارئ أن يكون شريكاً وليس مجرد متلقّ سلبي، كما اعتاد في قراءة الروايات التي درج عليها. كما أن لكل شخصية قالبها الروائي الذي وجدت لأجله من دون إساءة توظيف ولا حشو مبالغ فيه، معتمداً على تكرار بعض الجمل والمقاطع لمساعدة القارئ على تلقّي الرّواية في قالب أشبه بالعمل السينمائي المصوّر ومستمداً من الفنّ التشكيلي والمسرح.
«الحيّ الرّوسي» رواية المتخيل/ الحقيقي وبصيص ضوء يسلّط على ظلمات الحرب والحياة. إنّها عمل لا يمنح نفسه للقارئ بسهولة، بل يحتاج إلى إعادة قراءة للوصول إلى كل ما تركته الرّواية من أجوبة مبطّنة على أسئلة لن تنتهي ما دام هناك إنسان على هذه الأرض. فعلاً كما قال الكاتب عن عمله هذا: «روايتي غير صالحة لأن تُقرأ في نصف السّاعة الأخيرة قبل النّوم».