أما فلسفة الموسيقى العربية الجماليّة قبل سيّد درويش، فكان الطرب محورها الأساسي، المبني على العناصر التالية: المقامات العربية التي تحتوي على أرباع صوت غير معدّلة، أي حرة (مثل الراست والبياتي والهُزام والحجاز وغيرها) فيتصرف المغني حسب الإحساس والمزاج. ومن مفاعيل هذه المقامات أنها تثير المشاعر بقوة في المستمع، وتُشعره باللذة والمتعة اللتين يفتقر إليهما المستمع إلى المقامات المعدَّلة مثل مقامات السلّم الموسيقي المعدَّل الغربي الحديث. الارتجال كان قيمة تربوية نشأ عليها الموسيقيون في إطار التجويد القرآني، مدرستهم الأولى، وكان هذا الارتجال قيمةً أساسيةً أيضاً في الأداء الغنائي، فيدهش المستمع ويحرك مشاعره، ويزيد متعته الناشئة من المقامات العربيّة.
كان شكل الدور، وما فيه من هنك ورنك وأخذ وردّ بين المغني والمذهبجية، هو الذروة في الوصلات الغنائيّة، فكان الغناء بهذا الهنك والرنك، يؤثر في المستمع ويزيد متعته، مثل تأثير دوران الصوفية في عروضهم الشهيرة.
لكن لم تكن ثمة علاقة تعبيريّة بين الكلمة والنغمة: أيام سلامة حجازي مثلاً، كانوا يستعيرون ألحان الموشحات ويركبونها على أزجال أو أشعار أغنيات مسرحيّة جديدة، لا علاقة بينها وبين اللحن من الناحية التعبيريّة، وهي ناحية لم تكن موجودة أصلاً.
هذه الفلسفة كانت توازيها في الموسيقى الأوروبية في العصر الباروكي والكلاسيكي الأول، فلسفة جماليّة عنصرها الأساسي هو جمال اللحن الموسيقي والجملة اللحنية في ذاتها، حتى جاءت المدرسة الرومانسيّة بفلسفة جمالية أخرى عنصرها الأساسي التعبير والتصوير وحتى التمثيل بالموسيقى.
وجاء سيّد درويش، وهو من أسرة فقيرة تعيش في أجواء الأحياء الشعبيّة وتستمد ثقافتها الفنية من هذه البيئة، البعيدة عن أجواء البيئة الأرستقراطية التي يغلب عليها المزاج التركي في الموسيقى والفنون. ومن الفروق الأساسيّة بين الغناء قبل سيّد درويش وبين الأسلوب الذي جاء به:
كان غناؤه قلّما يدخل القصور، بل توسّعت دائرة انتشاره شعبيّاً، بالمسرحيّات الغنائيّة التي كانت تقدمها الفرق المسرحية الشهيرة في شارع عماد الدين، في ذلك الوقت، وأهمها فرق: نجيب الريحاني، ومنيرة المهدية، والإخوة عكاشة، وجورج أبيض، وعلي الكسّار، ثم فرقة سيّد درويش الخاصة. لم يكن توجهه السياسي مؤاتياً للتفاعل الكامل مع الطبقة الحاكمة، بل خاطب في فنه الطبقات الشعبية، ثم تولى مهام التحريض الاجتماعي في ثورة 1919. وهكذا ازداد تباعد بيئته وأجوائه الثقافيّة والاجتماعيّة والفنيّة عن الفئات الحاكمة وأسر كبار الموظفين والمسؤولين المصريّين الملتحقين بالطبقة الحاكمة.
لكن لم يخرج سيد درويش من عباءة الفن القديم في كثير من إنتاجه: الطقطوقة، والدور، والموشح. ظلت فلسفته الجماليّة فيها هي الطرب، أسوة بمن سبقه في القرن التاسع عشر.
إن من يستمع إلى أدوار سيّد درويش («ضيّعت مستقبل حياتي»، مثلاً) يستمتع بتلك المتعة المرتبطة بفلسفة الطرب الجماليّة، بعيداً تماماً عن فلسفة التعبير الموسيقيّ. وكذا قل في موشحاته («يا شادي الألحان»، مثلاً) وطقاطيقه («يا ناس انا مت ف حبي»، مثلاً)، فهي كانت مطربة على الخصوص.
أما في مسرحياته، وأغنيات الطوائف التي احتوتها، فقد اتخذ خطّه الجديد: الفلسفة الجمالية في هذا الخط الجديد في الأغنيات المسرحية، هي الخط التعبيري والتصويري والتمثيلي.
كان عبد الوهّاب الذي اعتمد هذا الخط وطوّره استناداً إلى ما أحدثه سيد درويش، يقول إنّ الملحنين من قبل كانوا يلحنون الحرف، أو الكلمة، ولا يلحّنون المعنى الذي يكتمل في الجملة الشعريّة، حتى قال له مصطفى النحاس، حين ظهرت أغنيته الخالدة «الجندول»، إنه لا يغني بل يتكلّم. ذلك أن فلسفة الجمال الجديدة التي أدخلها سيّد درويش في الموسيقى العربيّة هي التعبير والتصوير والتمثيل للشعر الغنائي، من أجل أن يكتمل اللحن بالشعر، والشعر باللحن، فيتعانقان في تعبير موحَّد.
خاطب الطبقات الشعبية في فنّه، ثم تولّى مهام التحريض الاجتماعي في ثورة 1919
وقال عبد الوهّاب، مفسّراً تلك الفلسفة الجمالية الجديدة التي أدرجها سيد درويش في الموسيقى العربيّة، إن هذا الموسيقار الخالد «ربط اللحن بالكلمة»، أي أن يكون اللحن معبّراً عن معنى الكلام الشعري والزجلي، أو عن حركته أو صورته. وقال عبد الوهّاب أيضاً، إن سيد درويش جعل للملحن مكانة في الأغنية، بعدما كان المغني هو الذي يحتل المكانة الأولى في الأغنية، إذ تختفي صورة الملحّن، من جراء تصرّف المغني وارتجاله، الذي تقتضيه وتستحسنه أغنية الطرب. لكن في أغنية التعبير، ولا سيّما في المسرحيّات، يكون اللحن موضوعاً بالتحديد من أجل تعبير معيّن، ولذا يضيع هذا التعبير عن أسماع المستمع، حين يعمل فيه التصرّف والارتجال في اللحن. وهنا تعززت مكانة الملحّن، حين صار على المغني أن يلتزم اللحن الموضوع بحذافيره.
وهذا هو التحوّل الأخطر الذي أحدثه سيّد درويش، ومات قبل أن يمضي فيه إلى مداه، فقيّض لتاريخ الموسيقى العربيّة الحضريّة أن جاء من يطوّر هذا المسار، بظهور محمّد عبد الوهاب، ورفاقه الكبار، محمّد القصبجي وزكريّا أحمد ورياض السنباطي، وغيرهم.
لذلك كله، يمكن إيجاز التجديد الذي بدأه سيّد درويش في الموسيقى والغناء العربيّين في القرن العشرين، بالقول إنه أدخل إلى الموسيقى والغناء فلسفةً جماليّةً هي التعبير والتصوير والتمثيل بالموسيقى. وبذلك اغتنت الموسيقى العربيّة بعنصر جديد إلى جانب الطرب، وهو عنصر التعبير.
استناداً إلى هذا، يمكن القول إن سيّد درويش لم يُحدث ثورةَ إلغاءٍ في الموسيقى العربيّة، بل ثورةَ إغناءٍ فيها، فلم يتنكر لأصوله التي ضربت جذورها في تربة التجويد القرآني والتواشيح والموالد، فنبت فرعه على هذه الجذور، وطعّمها بالتعبير، ليصبح فرعه في ما بعد شجرة وارفة، حظيت بعناية من خلفوه وأجادوا الإفادة من تجديده.
* باحث ومؤرّخ وناقد موسيقي لبناني، صاحب كتاب «سيّد درويش المؤسس» («دار نلسن» في بيروت و«دار ريشة» في مصر)