هذه الوقائع تثير أسئلة جوهرية عما تبقى من ودائع الناس بالدولار الموظّفة لدى مصرف لبنان والتي لا توجد تغطية لها وقيمتها بالحدّ الأدنى 75 مليار دولار: هل تبخّرت؟
والسؤال الثاني المطروح، بالاستناد إلى الوقائع المتعلقة بتمويل استيراد سلع محدّدة توازي قيمة استيرادها 30% من مجمل المستوردات: كيف يمكن أن نستورد المواد الغذائية من لحوم ودجاج حي ومبرّد ومجمّد، ومعلبات على أنواعها من الحبوب والأسماك، وخضر متنوّعة، وفاكهة وآلاف الأصناف التي يستهلكها اللبنانيون من ملبوسات ومواد صناعية أولية وسيارات ومعادن... هل يستطيع أن يعيش لبنان على البنزين والمازوت والقمح والدواء فقط؟
إجراءات المصارف اتخذت بالتنسيق والتشاور مع سلامة. هو قالها في مؤتمره الصحافي الأخير: إنها مرحلة إدارة السيولة. بتعبير أدقّ، إنها مرحلة إدارة الانهيار. تتطلب هذه المرحلة اختطاف الاقتصاد وربط مصيره بمصير المصارف. الاقتصاد بأفراده وشركاته باتوا رهائن عند المصارف التي مهدت لهذا الأمر عبر وقف القروض للأفراد، ثم منعت الدولارات عن الأفراد والشركات معاً، ما فرض التوجّه إلى الصرافين للحصول على دولارات بسعر السوق الموازية التي لا تقل اليوم عن 1850 ليرة مقابل كل دولار، أي بزيادة 22% عن السعر المحدّد من مصرف لبنان، وهذا بدوره انعكس ارتفاعاً في أسعار السلع. لاحقاً، وبشكل فجائي، أوقفوا إمدادات السيولة التجارية (التسهيلات المصرفية)، ثم حدّد مصرف لبنان التمويل بالدولار الرسمي لثلاثة أصناف فقط (مشتقات نفطية، دواء، قمح). كل ذلك بدأ يدفع الشركات نحو تقليص أعمالها وحسم الرواتب وصرف الموظفين وإغلاق خطوط إنتاجية، وصولاً إلى الإقفال. أما تداعيات هذا الأمر فلم تظهر بعد، لكنها ستكون عبارة عن كارثة اجتماعية تزيد معدلات الفقر والبطالة، وسيكون أثرها واسعاً على الاقتصاد عموماً الذي سيتقلّص وسيحفّز زيادة عمليات التهريب المنظم لكل أنواع السلع التي ستفتقدها السوق المحلية.
احتياطات مصرف لبنان تمثّل 28% من ودائع الزبائن في المصارف فقط
استجابة الشركات والأفراد لا تزال تقتصر اليوم على زيادة نسبة التعاملات بالعملات الورقية الأجنبية. بحسب سلامة، فإنه قبل 17 تشرين الأول، احتفظ اللبنانيون بنحو 3 مليارات دولار من العملة الورقية في جيوبهم، ويتوقع أن تكون مفاعيل الأيام الثمانية التي فتحت فيها المصارف خلال الثلاثين يوماً الأخيرة، قد أدّت إلى سحب وتخزين ما لا يقل عن مليارَي دولار إضافية. هذه المبالغ ستكون المدخل إلى النظام المصرفي الموازي الذي ولد. ما يحصل حالياً هو أن الشركات المستوردة باتت ترفض تسليم البضاعة إلا بعد تسديد الدولارات نقداً، محلات التجزئة بدأت ترفض تسديد الثمن بالبطاقات الائتمانية، وهي موجة ستتزايد تدريجاً في ظل الإجراءات القائمة، والأفراد يرفضون التخلّي عن دولاراتهم بسهولة، بل يلجأون إلى الصرافين لصرفها بالأسعار الحالية، ما يؤمّن لهم قدرة شرائية أعلى بنحو 22%، وهناك جهات محلية أخرى لا تزال تضخّ شهرياً الدولارات النقدية في السوق بكميات كبيرة.
رهان أرباب المصارف هو على معجزة ما تنقذهم ولو على حساب الرهينة. يزعمون أن انهيار المصارف مرادف لانهيار الاقتصاد، لكنهم في الوقت نفسه يعملون من أجل انهيار الاقتصاد وإنقاذ ثرواتهم التي حققوها من النموذج القائم على الريوع وخنق الاقتصاد الحقيقي في الزراعة والصناعة، ويتلهّون بنزاعات مع سلامة حول فرض الـ«كابيتال كونترول» بشكل رسمي معلن، أو بشكل موارب واستنسابي كما يحصل الآن.
لم يعد مهماً من يرفض تحمّل هذا القرار الذي هرب منه رئيس مجلس النواب نبيه برّي وحاكم مصرف لبنان، بل يتمرّدون على قرارات سلامة التي تصبّ في صلب الأزمة. فهو ألزمهم بزيادة رساميل المصارف بنسبة 10% قبل نهاية السنة الجارية، وبنسبة 10% قبل نهاية حزيران 2020. عملياً، فرض عليهم إعادة أرباح 2018 الموزّعة والامتناع عن توزيع أرباح 2019 وإعادة كل الأموال التي هرّبوها إلى الخارج والمقدرة بأكثر من 3 مليارات دولار. عتب سلامة عليهم: أعطيتكم الأرباح بسخاء على مدى عقدين ونصف عقد، واليوم تفرّون من تقديم المساعدة. الطيور على أشكالها تقع.