وسائل الإعلام المهيمنة لم تقتصد جهودها أيضاً كي تُقدِّم صورة سوداء عن تعبئة النقابيين، واصفةً ذلك بـ«جحيم الفرنسيين». بدت مواليةً لقرارات «الرئاسة الجوبيتيرية»، علماً أنّ الإعلام العمومي لم يعد، كما كان عليه في الستينيات، تحت قبضة وزارة الإعلام ووزيرها الشهير آنذاك آلان بيرفيت، الذي كان يُلقّب بـ«رقيب ديغول».
تزامناً مع تحركات النقابيين، يشهد عدد من الجامعات الفرنسية، من بينها «باريس 8» التي أنشئت عام 1971 لتكون وريثة المركز الجامعي في فانسان (حيث درّس مفكّرون كبار مثل جيل دولوز وفوكو وآلان باديو وليوتار) ووريثة فكر «أيار 68»، تعبئةً واعتكافاً طلابياً احتجاجاً على «الإصلاحات الجامعية» التي تُخطط لها الحكومة (أهمها الانتقاء الجامعي) وتضامناً كذلك مع المهاجرين ضد مشروع «قانون اللجوء والهجرة» المزمعة مناقشته في البرلمان خلال الشهر الجاري.
هكذا، وبعد خمسين سنة من احتجاجات أيار/ماي 1968، وفي ظروف مشابهة، يجد العمّال والطلاب أنفسهم، جنباً إلى جنب، في مواجهة الحكومة، وإنْ كانت دوافعهم مختلفة.
تقارب النضالات و«ميراث 68»
تزامن هذه الاحتجاجات رمزيٌّ بدرجة أولى، ويجعل من استعمال عبارة «تقارب النضالات»، (convergence des luttes) أي تقاطع المعارك التي تعبر المجتمع، صحيحاً، خاصة أنّ نسبة 50 في المئة من الطلاب اليوم، يشتغلون في نفس الوقت الذي يكملون فيه دراستهم.
أحداث «أيار 68» نفسها، كانت قد شهدت على تقارب النضالات، حتى وإنْ لم تكن هذه العبارة رائجةً آنذاك. إلا أنّ هذه العبارة ذات الطابع النضالي واليساري الصريح، دفعت إدوارد فيليب، نحو رفض استعمالها، مُفضِّلاً الحديث عن «تخثر الحراك» الاجتماعي («coagulation du mouvement»)، في إشارة إلى تشخيص طبي يستدعي أملاً بدواء.
التركيز على هذا التقارب مهم، ليس فقط لسلامة المقارنة التاريخية، بل نظراً إلى ما آل إليه ميراث «أيار 68» في فرنسا، إذ بات يُختزل في المخيال الجماعي بتكريس الحريات الفردية والمجتمعية (لا الاجتماعية) والمطالب النسوية التي نادى بها الطلاب. ومع ذلك، فإنّ إضرابات أيار/ماي 1968 العمّالية هي الأهم التي عرفتها البلاد في ظلّ الجمهورية الخامسة، وقد انتهت بما يعرف بـ«اتفاقات غرونال» التي قادها رئيس وزراء ديغول آنذاك جورج بومبيدو، وأحد الوجوه اليمينية الجديدة في حينه، جاك شيراك، وقضت بترفيع الأجور والإذن بخلق أقسام نقابية داخل الشركات، وكان ذلك بداية حلّ الأزمة السياسية.
أحداث «أيار 68» شهدت على تقارب النضالات، كما يبدو الحال اليوم
حكومة بومبيدو انفردت بالعمّال ونجحت في عزل أصحاب الأجور عن الطلاب، فيما احتفظت الذاكرة الشعبية بالبعد الأقل جدلية للحراك (البُعد الفردي والمجتمعي) الذي يتناسب مع الفكر الليبرالي الحالي، مهمّشة الانتصار النقابي. من هذه الزاوية، فإنّ ايمانويل ماكرون هو اليوم أفضل مثال لهذه الذاكرة الجزئية والمغرضة لـ«أيار 68»: ليبرالية اقتصادية ومجتمعية يسيران جنباً إلى جنب.
جدير بالذكر، أنّ هذا الميراث الانتقائي كرّسه «أيار» آخر، هو أيار/ماي 1981 بقيادة الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران، حيث كان وصول اليسار إلى الحكم مرادفاً لانتصار الليبرالية الاقتصادية والثقافة الفردية (كما يذكر ذلك المؤرّخ ماتياس برنار في كتابه «سنوات ميتران» «Les années Mitterrand», 2015).
رغبة إيمانويل ماكرون في المضي قُدُماً بـ«إصلاحاته» في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية وفي تجسيد الرئاسة «الجوبيتيرية» جعلته يهيّئ، بنفسه، لاجتماع ظروف إحياء الذكرى الخمسينية لـ«أيار 68» عملياً، وفي ظروف أقرب للحقيقة التاريخية.
ضمن هذا المشهد، تتواصل احتجاجات طلابية، بينما أعلنت نقابات السكك الحديدية نيتها للإضراب يومين في الأسبوع لمدة ثلاثة أشهر، إلى أن تتراجع الحكومة. لكن هل من الممكن اليوم، وبنفس طرق تعبئة الماضي القريب، الوصول إلى نتائج بالنجاعة نفسها؟ في انتظار الحصول على إجابة، يبدو أن في فرنسا، في ذكرى خمسينية «أيار 68»، «قلب الهواء أحمر»، في استعارة لعبارة المخرج الفرنسي كريس ماركر.