مثل الآلاف، اتجهت إلى ساحل علما لأستمع إلى فيروز. أصررت أن أكون موجوداً في اليوم الأول من حفلاتها الأربع. وصلت باكراً وانتظرت انتظار العاشق لمحبوبته. بدأت الصالة بالامتلاء. دخل الموسيقيون، وبدأ العزف. وككل عارف بالمراسيم الفيروزية، توقّفت دقات قلبي مع توقف الموسيقى. ها هي اللحظة المنتظرة، لحظة دخول السيدة. وكما في العشق، تأتي النشوة دوماً من حيث لا نتوقع. فيما كانت عيناي شاخصتين إلى المسرح، مترقباً دخول السيدة، لفح صوتها الآتي من لحظة الغيب قلبي، فوجدت نفسي واقفاً، مرتعشاً، أبحث عنها.
ها هي اختارت أن تمسّيني بصوتها قبل رؤيتها، ثم دخلت. وقفت شامخة على المسرح وغنّت. رحت أترقبها، أنتظر حركاتها القليلة. نعم، إنّها غالباً ما تكون ساكنة، لكن في حركاتها البسيطة سحراً لا يُفهم. لطالما شعرتُ بأنها قادرة على السيطرة على الطاقة المحيطة بها. كأنها تتحد بسكونها الحركي، مع سكون الكون. وفي غفلة، تشعر بأن طاقة خفيّة اخترقت جسدك، وأعتقته من ثقل المادة، لمجرد أنها رفعت يدها لتلامس خدها. فعل يشعرك بأنها حرّكت عبره جزيئيات الطاقة المحيطة بها كما حين تجمع يديها، أو تحني رأسها، أو تهز كتفيها. ثم تنفض رداءها، وتستدير لتخرج عن المسرح.
دخول فيروز وخروجها المتكرران خلال الحفل يشبهان حركة النول التي تضيف كل مرة حبكة إلى المسار الذي يربطك بها. ومع الوقت، تتجلى الخيوط ويكتمل المسار. اكتمال يحمل في طياته فرحة الوصول إلى أبهى لحظات المسار وحزن انتهائه. لكن فيروز تبقي دوماً للقاء الأخير العقدة الأجمل في حياكتها للمسار.
انتهى الحفل، وغادرت فيروز المسرح. همّ الجميع بمناداتها، متيقنين بأنها لن تبخل عليهم، وسوف تعود. وأنا، من دون أن أعي حركة جسدي، غادرت مقعدي المتأخر في الصالة، وتقدمت إلى الصفوف الأمامية. لم يصادفني أي رجل أمن، فوجدتني بخطوات أمام المسرح. ها هي تعود، وتدخل. أراها أمامي ووهجها يغمرني. تبدأ بالأغنية الأولى، ويعود الهدوء إلى الصالة ثم أغنية «الوداع». إنّها الآن فعلاً الأغنية الأخيرة، لحظة اكتمال المسار. تنهي كلماتها الأخيرة، ويعلو التصفيق. تعود خطوة إلى الخلف. تغمض عينيها. ترفع يدها اليسرى قليلاً وتنحني. لحظة اختطاف، أراني بجسدي أركض باتجاه المسرح. أقترب من فيروز، أركع أمامها. آخذ يدها اليسرى، وأقبلها. تفاجأ بي، ترتجف يدها في يدي، وتسحبها. ثوان حسبتها زمناً، قبل أن يصل رجال الأمن لينزلوني عن المسرح. لكني كنت مغادراً. لم أكن لأطلب أكثر من ذلك، ورحلت مطمئناً. أيها القارئ العالم بكذبي، سامحني إذا انتحلت فعلك. نعم، أنت «الشخص» الذي قبّل يد فيروز وليس أنا. ولا أعلم من أنت. لكني كنت موجوداً هناك وفي الصف الأمامي إلى جنبك. صحيح أنّني لم أتحلّ بجرأتك، لكن اسمح لي بأن أقول معك: «سيدتي أعطني يدك لأقبّلها».
5 تعليق
التعليقات
-
LOL كتير بيضحّك صراحةLOL كتير بيضحّك صراحة "المقال"!!!!حسّيت حالي عم بقرا موضوع إنشاء!
-
فيروزيروي ديب، أيها الحاضر بدلا عني وعن عدد لا يحصى من المسحورين بصوت فيروز، لم أحسدك لأنني لم أشارك في هذا العيد الروحي ... بل لعلني اليوم أشد " ديموقراطية" في تقبل شركاء لي في هوى ً لفيروزي وحدي. إليك يا سيدتي فيروز أنقى باقات الياسمين والورد ... من قلب لبنان هذا الورد الذي يحير عاشقي الطبيعة في تمازج ألوانه من البنفسجي المتحد مع الأبيض ... ومن سوريا لا بد أنه وصلك العطر الأنضر ... ولا سيما حين تغنين " المجد ... ما المجد .. أنت المجد يا شام" ها هو صوتك يا فيروز فاعلا كعصى ً سحرية ينثر اللآلىء والدرر في قلوبنا .. فنحن اليوم أغنياء بالحب النقي ... للمناضلين في جنوب لبنان ( حيث البرد القارص) و للمناضلين من الجيش العربي السوري بقيادة الرئيس بشار الأسد.
-
رائع انتحالك للشخصية وانارائع انتحالك للشخصية وانا اقرأكنت اقول لنفسي نياله قبل يد القديسة بس على كل نيالك لأنك كنت في المقعد الامامي والى جانب الذي قبل يد فيروز الحبيبة الابدية .
-
يا الله ما اجملكولا شي بس لما قريت نصك حسيت اني بحبك كتير من دون معرفة يا الله ما اجملك! بعد فيه ناس بهالزمن الغريب بتحس هيك وبتكتب هيك؟