بجمعه مواضيع واسعة منها التحليل النفسي والتديّن والطبقية والخلفيات الثقافية، يخوض المسلسل اختباراً صعباً يعالج إشكاليات كبيرة تنطبق على مجتمعات مختلفة لكنها تنطلق من المجتمع التركي. إشكاليات قد تهدّد أي عمل بالوقوع في التعميم أو في الركون إلى التنميط السائد. تجري أحداث المسلسل في إسطنبول المعاصرة، خزّان هذه الأطياف والأفكار والقناعات بما فيها من تناقض يصل إلى حدّ النفور. كاتب العمل والمخرج التركي بيركون أويا، هو كاتب مسرحي قبل أن يخوض مجال الكتابة التلفزيونية. لديه أسلوب أخّاذ في رسم الشخصيات، وفي بناء صراعاتها التي لا تستثني أحداً. يذيب الهويّات العامّة في شخوص تتطوّر وتصطدم بذاتها وبذاكرتها طوال العمل. قد تبدو العلاقات بين الشخصيات أكثر من مجرّد صدف عفوية، بل تظهر أحياناً كروابط مفتعلة وفق خيار إخراجي سهل. غير أن المخرج والكاتب يبني من خلال هذه اللقاءات مساحة معنوية تتّسع للجميع خصوصاً أن العلاقة مع الذات تمرّ حتماً بالآخر. وهذا ليس اكتشاف المسلسل بقدر ما هو نجاح العمل في تظهيره من خلال كلّ العقبات الفردية والعامّة التي تصدم بها العلاقة مع الآخر.
ينطلق العمل من ملامح طبقية وثقافية ودينية عامّة، لكنّه يهدمها ويفكّكها بغوصه في دواخل الشخوص وفي لاوعيها
بعد سنوات من ممارسة مهنتها في التحليل والعلاج النفسي، لم تتحرّر الطبيبة النفسية بيري (دافنه كايالار) من ماضيها تماماً. إذ لا تزال ترث نفور والدتها من المحجّبات والمتديّنين. وحين تتذمّر بصراحة «كأننا نعيش في دولة أخرى غير تلك التي يعيشون فيها» أمام معالجتها غولبين (تولين أوزان)، فإنها تفصح بذلك عن هواجس معظم الشخصيات تجاه أيّ اختلاف. لعبة يبدأها المخرج في عيادة الطبيبة والمعالجة، ويستمرّ في تنقيبه في دواخل الشخوص طوال المسلسل. يرتكز ذلك على الكتابة المتقنة والمتعمّقة لصراعاتها والتي يتلقّفها أداء الممثلين. حوارات توازيها اللقطات والمشاهد وأسلوب التصوير. مقابل مشاهد عامّة لإسطنبول، تظهر الكاميرا تحيّزاً لوجوه الممثلين ضمن لقطات ثابتة حتى حين تكون بمفردها، وهي بذلك تبدو كمعادل لمونولوج خافت يكشف دواخلها.
يقلب المخرج والكاتب الأدوار. ربّما لا يقلبها تماماً، لكنه يضع المعالجة في موقع الاعتراف، وهي تعلن عن هواجسها، وأزماتها الشخصيّة منها التيبّس في وحدة تمنعها عن مشاركة الآخر أو تقبّله. مشاعر مخبّأة يوقظها لديها حجاب المريضة والبطلة مريم (تتألق في تأدية دورها الممثلة الشابة أويكو كارايل) التي تلجأ إلى عيادة بيري، بعد إصابتها بالإغماء المتكرّر من دون سبب فيزيائي. مريم هي فتاة متديّنة، ذات تحصيل علمي متواضع تجبرها الظروف الاقتصادية على العمل في تنظيف المنازل. تعيش مع أخيها ياسين (فاتح آرتمان) وطفليه وزوجته روحية (فوندا إيريت) التي تقع فريسة ماضيها مجدّداً ما إن تعلم بأن الرجل الذي اغتصبها وهي طفلة قد توفي. تلجأ العائلة بأكملها إلى الشيخ علي لدى كلّ مشكلة تواجهها. تستشيره وتطلب منه النصائح في أمور يعرفها ولا يعرفها، ويلجأ في أغلب الأحيان للإجابة عنها بنوعَي الزهور الصناعية والحقيقية.
بينما لا ينجو أحد من هويّته في المسلسل، أكان في وعيه لذاته أم من خلال وعي الآخرين له، إلا أن المخرج والكاتب لا يستسلم لهذا التأطير الهوياتي. قد يقع المسلسل في التنميط الشكلي بربطه المستوى الثقافي والتحصيل العلمي بالطبقة الاجتماعية والتوجّه الديني، إلا أنه سرعان ما يجتازه في تظهيره اقتراحات متعدّدة لكلّ شخصية ولجوانب مُخفاة منها، خصوصاً في تنوّع الشخصيات الأنثوية ومآزقها. مع تقدّم الحلقات، لا يُعد التحصيل العلمي والطبقة الاجتماعية شرطاً للانفتاح والقدرة على التقبّل. إذ يتوقّف العمل عند أوجه مختلفة من الانغلاق ومن السطوة «المثقّفة» الفوقية على الآخرين. هكذا ينطلق من ملامح طبقية وثقافية ودينية عامّة، لكنّه يهدمها ويفكّكها في الوقت نفسه، بغوصه في المخبّأ وفي اللاوعي، إذا أردنا أن نتتبع خطى العمل في اعتماده على التحليل النفسي، وذلك عبر الاعترافات وزلّات اللسان والأحلام...
الكلام هو عتبة التحليل النفسي، كذلك هي الحوارات في المسلسل الذي يقدّم شخصيات مركّبة ومتناقضة، يحييها الأداء المُتقن لمعظم الممثلين، ولا سيّما مريم التي تقدّمها أويكو كارايل بأسلوب مدهش تجلّى في ابتكار حركات وتفصيلات هي ملامح داخليّة أكثر منها حركات ظاهريّة.