تنكص شهرزاد بالقارئ نحو تلك الليالي، بالعودة إلى زمان القص، حيث لا شيء كان يحدث إلّا الحقيقة، عندما كانت ضحيةَ ذكرٍ مغرورٍ متسلّط، فاضطرت لخلق الحكايات، وصوغ الأمثولات، وامتهنت لعبة القص مثل جنية من جنيات عالم العفاريت السفلي، وراحت تسرد ما سمعته من أفواه البحارة وتجار القوافل العابرة، ليس لغرض القصّ بذاته، رغم أنها تعتبره فعلاً سامياً مقدساً، بل لرفضها العميق لذلك الظلم الموجع، ولتلك التهمة الذكورية الباطلة التي أُلصقت بها... تهمة السقوط من الفردوس، ونعتها بجنس إبليس، مقابل «آدم» المغرور بكماله، المنتفخ بالعصيان والفضول.
عبر صفحات الكتاب، تتساءل شهرزاد: أليس الفضول هو ما دفع شهريار لتأجيل إعدامها؟ أليس السرد والكلام هو الفعل السحري الذي نقل الذكرَ الهائجَ فيه من الغضب المسعور إلى عالم الطمأنينة؟ ألم تنجح عبر قصصها في دحض كلّ الحجج التي اتُّهِمَت بها النساءُ بالضلال والغواية؟ إلا أنّها رغم ذلك تعلن صدمتها، ليس لانتصارها، بل لأنها بعد خروجها من القبر باتت ترى شهريار طيباً لقاء ما وجدته من ذكوريةٍ همجية رعناء في عالم اليوم، ولقاءَ ما أخرج حكاياتها من جنة الشفاهي إلى قبر المواد المنسوخة، فنراها تروح وتجيء بالرموز الأشد إقناعاً، وتصحّح المحوّر، وتضيف المحذوف من قصص شهيرة مثل قصة «علي بابا والأربعين حرامي» و«الحمال والبنات الثلاث»، طارحةً سؤالاً راح يتردّد عبر الرسائل: من عمل على إدخال الخليفة العباسي هارون الرشيد إلى حكاياتي الفارسية؟ ومن الذي جعله قطباً رئيساً عبرها سواء أحضره بزيّ المتنكّر أو بصورة الخليفة العادل والحاكم المنصور المظفر؟ أليس من قام بذلك ذكر؟ ألا يتخفّى خلف ذلك الفعل غرورٌ ذكوري غيّر جلدَ النص الأول وأفقدهُ أصله؟
تهزأ من علماء اليوم الذين صاغوا إنساناً بعيداً عن ماهيته، غريباً عن ذاته
لا تخلو الرسائل الغاضبةُ على لسان شهرزاد من التهكمِ والسخرية، بل حتى مع كاتبها الحرفوش، تجيءُ بعباراتٍ ساخرةٍ لاذعة، تهزأ بالقاموس الحديث، وتسخر من ذلك التقدم الأخلاقي والسياسي والتكنولوجي المزيّن بالكلمات الخادعة. بل تهزأُ من علماء اليوم الذين صاغوا إنساناً بعيداً عن ماهيته، غريباً عن ذاته؛ إنساناً صار يكذب حتى صدّق نفسه لكثرة لجوئه إلى الكذب، فنجدها تبثّ النداءات وتصرخ بالعبارات لفرويد الذي سبقته بقرون في سبر الأغوار العميقة، وتصحح لسيمون دو بوفوار معنى الاختلاف بين الرجل والمرأة، وتردّه «للطبيعة لا إلى المجتمع الذي شوّه صورة الفطرة الوظيفية»، وراح يبني «كركوزات ذكورية» تتباهى بوهم الحرية والديمقراطية، تقوده بروميثيوسات مبهرجة بالحداثة، قوامها جنون العظمة، وهذيان الاضطهاد، لتصوغ الحل، وتكتب عن خلاصٍ لن يكون إلا على أيدي نساء ماهراتٍ، لا يشبهن نساء عالم اليوم اللواتي وجدتهنّ دمى حقيقيةً، ومجرد لعبٍ إباحية بيد الذئاب الجدد.
ترى الخلاص في أيدٍ حكيمة وعقول جامحة الذكاء، بعيداً عن ذكور اليوم الهائمين، الذين قادوا العالم نحو الهاوية، والذي وجدَتهم أشرسَ من شهريار الطيب المسكين، فباتوا بحاجة إلى أنثى تعيدهم إلى ركنهم العائلي الدافئ وتصوغ وجودهم المكمّل لوجودها الأصلي.
«مرافعةُ شهرزاد» ليست محاولةً لدحرِ الفحولة المجنونة السَّاعية لامتلاكِ كلّ شيء، مثلما كانت لياليها وَحكاياتها. كما أنها ليست محاولة لمناصرةِ المرأة أو معاداة الرجل، بل هي رسائلُ تدعو للتواضع والحكمة، تنحو لجمعِ ثنائيةِ (الذكر والأنثى) من جديد. ثنائية انحرفت عن مسارها وباتت متصارعةً، في حين أنها لا تتعارض ولا تتناحر مع جوهرها الوظيفي المتكامل، الذي يشكّل أساسها، وليس التناقضُ ولا التفوق الموهوم والباطل لجنسٍ على آخر. هي صرخةٌ مدويةٌ في عالمٍ بريّ، تدعو إلى الاعتدال والحسّ السليم الطبيعي، تحت سماءٍ موحشةٍ تكاد تتهاوى فوق كوكب الأرض وسكانه!