حين نرى اسم خالدة سعيد على غلاف كتاب «في البدء كان المثنّى» (دار الساقي)، تداهمنا السيرة المضيئة لهذه الناقدة التي واكبت الحداثة الشعرية العربية منذ نهاية الخمسينيات. نستعيد دراساتها المعمّقة والتأسيسية في قصائد السياب وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط. كان جديداً على قرّاء تلك الحقبة أن يقرأوا نصاً نقدياً يستغرق 40 صفحة عن قصيدة واحدة.
الكتاب الجديد ليس عن الشعر. لم يعد الشعر هاجساً وحيداً كما في البدايات. سرَّحت صاحبة «حركية الإبداع» نبرتها النقدية في مناطق أخرى، وخصوصاً في المسرح فأنجزت مجلداً مرجعياً بعنوان «الحركة المسرحية في لبنان» (1998)، وكتاباً عن شعرية المسرحةبعنوان «الاستعارة الكبرى» (2008). وها هي تطلّ علينا بكتاب يتحرك بين مقاصد سوسيولوجية وغايات إبداعية. إنّه كتاب امرأة عن نساء. الحضور القوي للنساء لا يجعل الكتاب نسوياً. المادة التي فيه أكثر تعدداً وتفلسفاً من العناوين الشائعة للنسويات. لكن لماذا تحضر مفردة «المثنى»؟ لماذا لم يعنون بـ«في البدء كانت الأنثى» مثلاً؟ السبب يعود إلى تسرب الخطاب الديني إلى فكرة الكتاب، باعتباره متدخِّلاً أساسياً في تحديد المجال العام والخاص المتاح للمرأة العربية والمسلمة، ولأنه استُخدم كسلاح لقمع حريتها وقضم حقوقها. تكشف خالدة سعيد «المسافة التي انزاحت إليها المأثورات والمرويات الخاصة بالنساء» التي «نقلت وربما حرَّفت» مواقف النبي محمد والنصوص الصادرة عنه مباشرةً.
وترى أن قصة خلق حواء من ضلع آدم، ومسؤولية حواء عن الخروج من الجنة هي رواية توراتية، نافيةً ورود مفردتي «ضلع» و«حواء» في القرآن، ومستشهدةً بآيات تؤكد أنّ آدم وامرأته خلقا من نفس واحدة، أو أن امرأته خُلقت من نفسه لا من ضلعه. لماذا تبنّى العالم الإسلامي هذه الرواية؟ نسألها: «السبب عائد إلى ركام الأحاديث النبوية التي تناولت المرأة. البخاري تجاهل أكثر من 500 ألف حديث في صحيحه، لذا فإن شطب أحاديث أخرى أمر ممكن. كنت سأضع آية إنا خلقناكم أزواجاً في مستهل الكتاب، لكني لم أُرِد دمغه بطابع ديني». بالفعل، نغادر مقدمة الكتاب فنجد أنفسنا أمام تحية نقدية طويلة لقاسم أمين صاحب «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، تليها دراسات تتناول تجارب مبدعات عربيات: لور مغيزل، فاطمة المرنيسي، روز غريِّب، سنية صالح، منى السعودي، نادية تويني، أندريه شديد، سحر خليفة، مي غصوب، فدوى طوقان، سلوى روضة شقير، ليانة بدر، سعاد الحكيم، أسيمة درويش، أنجليكا فون شويدس ــــ قصاب باشي.
الأطروحة الجوهرية في الكتاب تتمثل في الرهان على الإبداع والبحث والتحليل والكتابة. بموازاة رهان النضالات التقليدية من أجل تغيير القوانين أو تعديل الصورة السائدة للمرأة في الوعي الاجتماعي، تشقّ خالدة سعيدة طريقاً جانبياً تريده أن يتغذى من الكتابة والابتكار لا على المطالب القانونية. الفارق أنّ الرهان الأول استُعمل بإفراط، بينما الرهان المقترح يحمل وجاهة وخصوبة مختلفة.
النسويات اللواتي يرفعن شعار «الأنثى هي الأصل» يقابلن الخطأ بخطأ آخر (خ. س.)
تناقش سعيد مسألة أن «المرأة العربية كائن بغيره لا بذاته»، فهي تُعرَّف بالنسبة إلى الرجل وليس لها وجود مستقل، وحين تدخل مؤسسة الزواج «تفقد شخصيتها وتعيش في حالة دنيا». وفي مكان آخر، تدين سعيد الأحزاب اليسارية العربية لأنها لم تسيِّس قضية المرأة. وتعود إلى رهان الإبداع «كبديل يفلت من فعل الزمن والموت وينتقم من استحالة الخلود». وتتساءل بمرارة عن قدرة ذوبان المرأة في الأسرة على «إفشال المشروعات الذاتية». وحين نسألها عما إذا كان في هذا التساؤل حضور موارب لتجربتها كامرأة اقتطع العيش مع شهرة أدونيس، جزءاً كبيراً من مشروعاتها، تسارع إلى الرفض: «أدونيس ليس له دخل. كل منّا يتحمّل مسؤوليته في الحياة المشتركة». لكن الزواج وتربية ابنتين سرقا منك وقتاً كان ممكناً إنجاز كتب فيه؟ تبتسم: «ومن قال إن تربية ابنة ليست كتاباً أيضاً؟».
توقيع «في البدء كان المثنّى» بين 6 و8 مساء اليوم ـــــ صالة عرض «دار الساقي» (نزلة السارولا، الحمرا ـــــ بيروت) ـــــ للاستعلام: 01/866441