«رحيق العمر» ليس مكمّلاً للجزء الأول من سيرة أمين «ماذا علمتني الحياة؟» ( 2007)، بل سرد لأحداث الجزء الأول إنما بعين أخرى «أكثر تأمّلاً ربما أو جرأةً أيضاً». كأننا بصدد شخصين يصفان حياة واحدة، لكنّ ما يسترعي انتباه أحدهما غير ما يلفت الآخر.
يوغل الجزء الأوّل في الطفولة أكثر، بينما يكتب أمين الجزء الثاني للمستقبل. أدرك مصمم الغلاف هذا الأمر، فاختار صورة العائلة يتوسّطها الأب غلافاً للجزء الأول، بينما وضع صورة جلال وحفيده غلافاً للجزء الثاني. عنوان الجزء الثاني يحمل معنى الخلاصة الصافية. إذ إنّ كلمة رحيق تعني في اللغة عصارة الأزهار الطيبة الرائحة، «وهو نوع من العطر لا غش فيه».
نحن إذاً أمام سيرة نادرة في الثقافة العربية التي اندثر فيها فن البوح أو ثقافة الاعتراف. «لو صارح بعضنا بعضاً بأكبر قدر من الحقيقة، ستكون النتيجة حتماً أفضل من الكذب، وأفضل من التظاهر، بل أفضل أيضاً في كثير من الأحيان من الكتمان». هذا ما يلمّح إليه أمين في مقدمة السيرة.
صاحب «التنوير الزائف» كتب سيرته مرّتين
لا يتردّد أمين جالساً أمام مرآته، في الاعتراف بأنّه محب للظهور... هو الأخ الأصغر أو «آخر العنقود» لسبعة أشقاء. لهذا، كان يسعى إلى إثبات نفسه خارج المنزل، فلم يكن يقبل غير الترتيب الأول على فصله، ويعدّ ذلك مسألة حياة أو موت. كان يتقمّص شخصية القائد العسكري، ويقسم الطلاب إلى جيشين يتواجهان في «حرب جلال».
يستعيد صاحب «التنوير الزائف» سنواته اللندنيّة، أواخر الخمسينيات، حين ذهب إلى العاصمة البريطانيّة للدراسة. كانت تلك السنوات الأكثر خصوبةً في حياته. يخبرنا كيف تلقّى نبأ وفاة أمّه: «لم أحزن كثيراً، فقد كنت قد دخلت في علاقة حميمة مع فتاة إنكليزية، بعد حرمان طويل، ما أشعرني بثقة كبيرة في نفسي. ولمّا علمت بالخبر، كان وقعه عليّ أخف بكثير مما كنت أتوقع». يستعيد جلال أمين هذه الواقعة وغيرها ليؤكد أنّ «الإنسان في أعماقه كائن وغد».