عندما لبّيت واجب خدمة العلم (أو التجنيد الإجباري) شعرت منذ الساعات الأولى بأن الضباط لا يحبّذون الاحتكاك بالمجنّدين خارج إطار الدروس والتدريب. كما فهمت أنهم لا يحبّون الأسئلة أو الاستفسارات التي لا علاقة مباشرة لها بالموضوع. أمّا أكثر ما يكرهون، فهو المزاح، يعتبرونه انتقاصاً من هيبتهم، وغالباً ما كان يؤدي ذلك إلى عقوبة (سواعد، زحف أو حتى السجن لليلة واحدة). يقول موزار: «لا أحبّ الذين لا يضحكون أبداً، فهؤلاء ليسوا أناساً جدّيين». كل ضباط المعسكر كانوا هكذا؟ كلا. إذ كان بين المدرّبين (وهم برتبة ملازم أو ملازم أول) الملازم أول ع. شرَيف الذي كان الجميع يحبّه، والذي لم يكن يستقبل المزاح بصدر رحب فحسب، بل كان يبادر إلى ممازحة الشباب بذكاء وخفة ظلّ. كان يفرض احترامه بطيبة طفل. الأسئلة الخارجة عن المألوف كانت تُطرَح عليه، ومنها واحدٌ جدّي: لماذا يضع الضباط النجوم على أكتافهم؟ بمعنى، لماذا النجوم ولماذا على الأكتاف؟ فأجاب ببساطة: هذا التصميم يُراد منه رفع القيمة والثقة بالنفس، لأن الضابط يجب أن يشعر بأن رأسه فوق النجوم.
منذ ذلك الحين صارت لعبتي المفضلة مراقبة الضباط ومدى تأثير هذه المسألة في شخصية كلٍّ منهم ونفسيّته وسلوكه. لاحظت أن الكثير من الضباط، أثناء مدة التدريب، ثم في الخدمة اللاحقة للدورة العسكرية، وبعدها في الحياة وعلى التلفزيون وعلى الحواجز، كان يرى نفسه ويجهد أن يراه الجميع (من الجنود إلى المجتمع وصولاً حتى إلى العائلة) من هذا المنظور، وأقصد مردود هذه الصورة على شخصه حصراً، لا على المؤسسة وهيبتها. وكلّما تراكمت النجوم تحت الرأس، ارتفع المردود واتّضح قبح الصورة.
لكن الاستثناءات كانت موجودة. مثلاً، العقيد مصري، الذي كان طبيب المعسكر، لم يكن من هذه الناحية لا ضابطاً ولا طبيباً! لقد كان رؤوفاً ومتواضعاً وإنسانياً وصاحب أخلاق نادرة، لدرجة أنك تتمنّى المرض/الحادث لنفسك لكي تحظى بلقائه. كذلك، كان هناك من «يلعبون» هذا الدور أثناء الخدمة لفرض النظام، ولكن ما إن تلتقيهم في الحياة اليومية، حتى يتبدّى لك وجههم الآخر، المرِح والطيّب، مثل الرائد إبراهيم، آمر سريّتنا (61) القاسي الذي قد يقتل مجنداً ولكنّه يستحيل أن يهينه. أمّا المقدّم عيتاني، فقد كنّا نؤدّي له التحية بصوت عالٍ عن قصد لنذكّره بأنه أعلى منّا رتبة. المثال الأكثر استثنائية بين هذه الاستثناءات الجميلة (التي لا نشك بأنها كثيرة في المؤسسة العسكرية) فهو العميد أسعد مخّول. العميد رتبة يُرمَز إليها بسيف وغمده ونجمة واحدة مقابلهما. لكن إذا احتسبنا عدد الرتب بين ملازم (نجمة واحدة) وعميد، يمكن القول إن العميد هو ضابط بسبع نجوم. والعميد مخول، بدلاً من أن يكون رأسه فوق نجومه السبع، كان قلبه تحت سبع نوتات موسيقية وروحه تحت سبعة أطنان من الأدب والفن والشغف والحكمة والأخلاق. التقيت به أثناء الخدمة، أي إنّ العلاقة به لم تكن من مواطن إلى عسكري، إنما من مجنّد إلى ضابط، ومَن لم يدخل السلك العسكري بشكل دائم أو مؤقّت لن يعرف ماذا تعني التراتبية وكيف تكون العلاقة بين الرتب المختلفة. فمَن غير العميد مخول «يمكنه» أن يغِير ليلاً على مركز الخدمة و«يخطف» مجنّداً، فقط ليسمع معه في السيارة مقطوعة من بضع دقائق على كاسيت كان قد استولى عليها في رحلة إلى القاهرة. مرةً يقترح هو إعادتها ومرة يقترح المجنّد إعادتها، وفي كل مرة يتمّ التركيز باتفاق مسبَق بين المستمعَين على واحدٍ فقط من عمالقة الموسيقى الشرقية الذين يتناتشون السلطنة كالوحوش الكاسرة. مَن غيره سيمرّ على مجندٍ في الصباح ليترافقا برفقة الموسيقى والأحاديث التي لا سلطة فيها لأحدٍ على أحد غير سلطة الجمال والحقيقة، صعوداً نحو الجبل، ليستمرّ الحديث خلال ترويقة فول وحمص على تراب حديقة منزله البرية، بالقرب من «نبيلة»، شجرة الليمون الصغيرة التي تفوح من أوراقها أجمل رائحة في الكون (لا، لم أنسَ «نبيلة» يا عزيزي أسعد)، بعد أن استأذنها العميد وغمرها بحنان لنجلس بقربها. هكذا، إذا استثنينا أمر «مِل يسارك»، لما يتطلّب تنفيذه من دِقّة في العَدّ الإيقاعي، وفي ذلك متعة كبيرة، إلى جانب المتعة الناجمة عن الصوت الذي يصدر عن ضرب أخمص 180 رشاش G3 الألماني أثناء تقديم السلاح، كانت خدمة العلم كابوساً لمعظمنا (اليوم أعتقد أنه من الضروري إعادة تفعيلها)، لكن كم كنّا محظوظين بلقاء من لا ينظرون إلى البشر من فوق النجوم، فجعلوا من «التجنيد» تجربةً فريدة وذكرى جميلة.
إذاً، حتى الآن الخلاصة هي كالآتي: أولاً، رتب الضباط صُمّمَت لتضع رؤوس أصحابها فوق النجوم، ما ينعكس سلباً في سلوك من يسيء استخدام هذا الأمر لأسباب نفسية باطنية. ثانياً، العميد هو ضابط عَلا رأسه فوق شبه مجرّة. ثالثاً، الجيش، كمؤسسة، «على راسنا»، ولكن عندما نفرده إلى عناصر، يختلف الأمر، وتصبح كل حالة مستقلة بذاتها ويجري تقييمها على هذا الأساس. نضيف الآن، رابعاً، التقاعد. لا بدّ أنّه يحلّ كالكارثة على مَن اعتادوا السلوك الناتج من الشعور الدائم بالعلوّ الشاهق للرأس. هذا يسبب كبتاً سلطوياً واحتقاناً خطيراً قد يولّد مشكلات: إنه صلب موضوعنا.
لم أفكّر في الأمر قبل مساء الثلاثاء الفائت، نتيجة الحادثة التي حصلت معي داخل حرم «الجامعة الأميركية في بيروت» أثناء تغطية لأمسية بيانو ضمن مهرجان «بيروت ترنّم». إليكم تفاصيلها الحرفية مع بعض التحليل الذي رافقها ثم تلاها نتيجة بعض التطورات والمعلومات أيضاً. وأعتذر مسبقاً عن الإطالة، ولكنني أتوخى الدقّة في مسألة شديدة الحساسية:
مساء الثلاثاء في 5 كانون الأول (ديسمبر) الفائت، كان الطقس ماطراً بشكل لا يشجّع على الخروج من المنزل. لكن الأمسية التي تقام عند الثامنة في الـ«أسمبلي هول» تهمّني كثيراً، وبين الشغف المزمن وأهمية الأمسية والواجب المهني قرّرت الحضور. الطريق كانت صعبة، والسير متوقّف في الشارع المؤدي إلى محيط «الجامعة الأميركية». بدأت أقلق وأتوتّر، ولكنّ اتصالاً أجريته مع المنظّمين طمأنني قليلاً، إذ تمّ أخذ أحوال الطقس وزحمة السير في الحسبان، والأمسية ستتأخّر بعض الوقت لتنطلق. كالمجنون ركنت السيارة وتوجّهت ركضاً تحت المطر وفي بالي مهمّة واحدة: يجب أن أصل إلى باب القاعة قبل أول نوتة من السوناتة رقم 30 لبيتهوفن بأنامل الكوري الشاب كيوبين شونغ. كمن يرى نوراً في السماء، رأيت من فتحة الباب، التي كانت تضيق ببطء، وجه رجلٍ ذي ملامح آسيوية واقفٍ خلف الميكروفون. لا بدّ أنه السفير، وها هو ينهي تقديم مواطنه ويطلب من الجمهور الاستمتاع بالأمسية. جلست، كيوبين وأنا، في اللحظة ذاتها، هو على كرسي البيانو، وخادمكم على المقعد المحجوز باسمه مسبقاً، في الوسط، إلى اليسار قليلاً (وهذا مطلبٌ ثابت في أمسيات البيانو، ومنظّمو المهرجان يلبّونه دائماً باهتمام وحرص. لهم الشكر). الإنجاز جلل والسعادة لا توصف... حتى كدت أقبّل المسنّ الجالس بجواري. الحركة الأولى كانت جيدة. في الثانية اعتمد شونغ إيقاعاً سريعاً قليلاً ومقاربةً هجومية، صنعا توازناً جميلاً جداً مع الحركة الثالثة، الوجودية النَفَس، على طريقة بيتهوفن، تقريباً في كل أعماله في السنوات الأخيرة من حياته. البداية مشجّعة، وبعدها أتت مقطوعة لسيزار فرانك من ثلاثة أجزاء متّصلة: المقدّمة جيدة جداً، الكورال الوسطي وسط والـ«فوغ» الختامية ضعيفة نسبياً. الآن استراحة، وبعدها سنسمع العمَلين اللذين أسهما بنسبة كبيرة في خوض مغامرة الخروج من المنزل في مثل هذا الطقس: سوناتة قصيرة لياناتشيك (كتبها تحية لعامل قُتِل أثناء تظاهرة عمالية عام 1905، وعنوانها «من الشارع» ولها عنوان آخر هو تاريخ الحادثة)، وكنت أتطلّع بشوق لمقارنة مقاربة عازف كوريّ لعملٍ تشيكي، بمقاربة الروسي ألكسندر مالوفييف في «مهرجان البستان» السنة الماضية. أما العمل الثاني، فهو الـHumoreske لشومان، أحد أعمال البيانو الضخمة قلباً وقالباً للمؤلف الألماني. حماسة عارمة بين ما سمعت وما سأسمع، لا ينقصه سوى سيجارة مؤجّلة منذ خروجنا من المنزل. بين الاقتصاد والصحّة انتقلنا أخيراً من علب السجائر الجاهزة إلى تدخين «اللفّ»، الأوفر والأقل ضرراً، صحيح، ولكن المُلبِك وغير الممكن أثناء القيادة (أقله ليس أثناء القيادة تحت الضغط).
إذاً، خرجت من الباب متوجّهاً إلى خارج حرم الجامعة لأنني بسبب ارتيادي هذا الصرح بشكل متكرّر، أعرف القانون الجديد الخاص بالتدخين. لكن لاشعورياً «مِلت يساراً» قليلاً، أي باتجاه المساحة التي كانت مخصّصة في السابق للتدخين (لمن يعرف المكان)، ولكن من دون النية بالتوقف هنا. فأنا أحترم القانون حتى لو اعتبرته غريباً أو عبثياً. هذا ليس من شأننا. نحن زوار هذا الصرح الذي تربطنا به وببعض أساتذته وطلابه السابقين علاقة طيّبة وخاصة، وكان وسيبقى مكاناً أكاديمياً وفكرياً وفنياً جميلاً وعريقاً.
لكن، ولمّا كانت الحاجة إلى النيكوتين قد بلغت الذروة، والسيجارة تحتاج إلى تحضير، ووقت الاستراحة ضيّق، بدأت عملية اللف فور خروجي. فإذا بـ«شبحٍ» بلباس مدني رسمي داكن، في يده مظلّة مغلقة، يسير خلفي ببضعة أمتار ويقول: «ممنوع التدخين هون». استدرت وقلت بلطف: «نعم، بعرف... ضاهر لبرّا». ردّ: «وقّعت القداحة». عدت صوبه، فإذا به يقف عابساً مستقيماً واضعاً رأس مظلّته (في حركة فيها فوقية «أمنية» مبطّنة) تماماً قرب ما اعتقَدَ «الشبح» أنه الولاّعة، في حين أني في الواقع أوقَعت «دفتر ورق» السجائر. المشهد استفزازيّ بشكل واضح، رغم عدم القدرة على نقله بدقة عبر الوصف، ولكن صدقاً، للحظة انتابني شعورٌ بأنني لست في حرم جامعة ببيروت عام 2023، بل في رهبة ليلةٍ باردة بشارعٍ مقفرٍ في برلين أواخر ثلاثينيات القرن الماضي: أرض مبللة، مطر خفيف جداً، أصوات أقدام بعيدة، مقعد مهجور، صوت ورقة تسقط من شجرة... «الشبح» ثبّت نظرة مبالَغٌ في جدّيتها عليّ وأنا أدرت له كتفي، وجهي باتجاه البحر. رغم ذلك، قرّرتُ عدم التفوّه بأي كلمة واكتفيت بالردّ على الاستفزاز بأن التقطت الدفتر وبقيت مكاني لألفّ سيجارتي المرجوّة. كنّا وحدنا تماماً في هذه الفسحة، فالطقس أرغم حتى المدخّنين على عدم الخروج. التقطتُ بعض التبغ وما هي إلاّ ثوانٍ حتى قررتُ متابعة السير و«كسر الشرّ»، فانقطعت الكهرباء وحلّ ظلامٌ حالك سمّرَني في مكاني، حيث مَحَت الظلمة «الشبح»، ولكنها زادت من ثقل هالته. انتظرتُ حتى تُعيد العينُ تكوين المادة التي تجمع البروتيين بالفيتامين A والتي تتشكلّ على رأس بعض خلايا الشبكة المخصصة لالتقاط الضوء الخفيف فيستطيع الإنسان أن يرى بشكل أفضل نسبياً في الظلام، وتوجّهت إلى المدخل، والنور كان قد عاد إلى المكان. ما إن بلغتُ آخر درجة قبل الدخول في القنطرة ومنها إلى الشارع حتى ناداني «الشبح» مجدداً. توقفت واستدرت. وصل إليّ وقال بفوقية ومن دون مقدّمات: «تفضّل معي إذا بتريد... أنا مسؤول الأمن عم بحكيك». قلت باستغراب مبرَّر: «خير! في شي؟! ما ولّعت السيجارة، وأنا خارج لأدخنا برا..في مشكلة؟». قال: «بدّك تجي معي عند الدرك». قلت: «الدرك؟! شو السبب؟». قال: «تفضّل معي وهلق بتعرف». قلت: «لأ، لازم أعرف قبل ما اتفضّل، لأنو إذا ما في سبب بتكون عم بتبلّش تعرقل لي شغلي. أنا هون بمهمّة، وحضرتك عم تمنعني أعمل شغلي من دون ما أعرف السبب». قال: «شو شغلك؟». فأخرجت بطاقتي الصحفية وقلت له بنبرةٍ مدروسةٍ لحناً وإيقاعاً، أنني هنا لتغطية الحفلة المُقامة عندكم بدعوة من منظّميها وبتكليف من جريدتي. أخذ البطاقة، تفحّصها، ردّها وقال حرفياً: «فيك تضهر، بس ممنوع ترجع تفوت». هنا أدركتُ أنه ارتكب عدّة أخطاء متتالية، وأدركتُ أنه أدرَك أنه ارتكب هذه الأخطاء وقررتُ عدم منحه فرصة «النجاة» التي لا يمكنه أن يحصل عليها سوى: واحد، إن ارتكبتُ ردّة فعلٍ خطأ من جهتي، اثنان، إن اعتذر لي... ولكن هيهات! لذلك، وبما أنني بدأت أغلي من الداخل وزادت حاجتي إلى سيجارتي العزيزة وزاد معها توتّري، التزمت الصمت وأخرجت الولاعة والهاتف وخرجت. ابتعدتُ أكثر من سبعة أمتار عن المدخل (تقيّداً باللافتة المعلقة على الحائط) وضغطت على الزرّين معاً: زر القداحة وزر الهاتف. اتصلتُ بمنظّمي الحفلة وأخبرتهم بالحادثة، فكانت أول ردّة فعل أن ليس هناك درك على حد علمهم داخل الجامعة! فماذا قصد «الشبح» بكلامه؟ ولماذا؟ أنهَيت المكالمة بانتظار المتابعة التي يقوم بها منظمو الأمسية، وأنهَيت سيجارتي الشهيرة وعدت إلى المدخل من جهة الشارع والتزمت بقرار «الشبح». ثوانٍ ووصل شباب الـ«تيكيتينغ» وبدأوا يستفسرون منّي من الجهة المقابلة للمدخل، وقبل أن أشرح الوضع وصل رجل أمن ثانٍ بلباس مدني لكن على قميصه بخط كبير أول حرف من اسمه واسم الشهرة. رغم ذلك، عرّف عن نفسه وتصرّف بهدوء ومهنية وتهذيب. طلب بطاقتي مجدداً، وفي هذه الأثناء بدأت أحلّل مسار الأحداث واستنتجت أن «الشبح»، بين رؤيته لعدة التدخين خاصّتي وبين ذكره للدرك ومعرفتي بأن لا درك في الجامعة، ربما شكّ بحالة تعاطي مخدرات علني في حرم الجامعة (يا رجل! إن كان حقاً هذا ظنك كان عليك استدعاء إسعاف مستشفى دير الصليب، لا الدرك)، بالتالي كان على الأرجح يقصد بـ«الدرك»، مخفر حبيش القريب من الجامعة والمتخصّص بتوقيف حالات لها علاقة بالمخدرات. هنا أثرتُ الموضوع مع رجل الأمن، وأخرجت علبة التبغ وفتحت حقيبة اليد وطلبت منه تفتيشها (تبديداً لهذا الاحتمال، بالتالي لمحاولة معرفة السبب الحقيقي وراء التصرّف الهستيري للـ«شبح»، لا لأنني اعتبرت أن لرجل الأمن الحق بتفتيش أغراضي لهذا الغرض). رفض رجل أمن الجامعة التفتيش، بمعنى أن لا ضرورة إطلاقاً لذلك، وأخذ بطاقتي قائلاً: «محلولة انشالله، بس بدي شوف العميد، دقيقة». دخل إلى المكتب الكائن يسار المدخل وعاد بعد وقت قصير واعتذر عن عدم السماح لي بالدخول، لأنه طلب حضور المسؤولة الإعلامية في الجامعة وهي ستقرّر. استعدتُ بطاقتي، لم أعلّق ولم أتحرّك. وصلَت إحدى منظِّمات الحفلة وبدأت تسأل باستغراب عمّا يحدث. لا جواب من أحد. وصلَت المسؤولة الإعلامية في الجامعة (لست متأكداً من صفتها المهنية بدقة)، سألَت «وين الجنرال؟»، ودخلت للتشاور معه ثم عادت وقالت: «مشي الحال، فيك تفوت». قلت لها: «ما بدّي فوت قبل ما أعرف ليه كان ممنوع فوت».
التقاعد لا بدّ أنّه يحلّ كالكارثة على مَن اعتادوا السلوك الناتج من الشعور الدائم بالعلوّ الشاهق للرأس

قالت: «اسمك ما كان معنا». هنا بانت أكثر من كذبة دفعة واحدة. ردّت المسؤولة في المهرجان: «مش صحيح. عندكن اللايحة واسمو موجود فيها. بعدين المشكلة بلّشت قبل ما تعرفوا مين هالشخص وإذا اسمو موجود أو لأ». ردّت الأخرى: «بقصد كصحافي لازم يكون عنّا اسمو»، فردت محدّثتها: «بلّشت المشكلة قبل ما تعرفوا إنه صحافي. يعني، افترضي مش صحافي وجايي يحضر الحفلة، إلكن حق تتصرفوا بهالطريقة مع العالم؟!». ردّت: (هنا لم أعد أسمع... فعلاً). شكرتُ ممثلة المهرجان على الاهتمام، وتوجّهت إلى السيارة وبدأت التفكير واستعادة الأحداث. لم أفهم شيئاً. عميد؟ ماذا تعني؟ في جامعة، «عميد» لها معنى مختلف عن العميد في العسكر. لكن المسؤولة الإعلامية قالت «وين الجنرال؟»، بالتالي عميد يعني سيف وغمده ونجمة أو سبع نجوم. ماذا يفعل عميد في الجيش (أو أي جهاز آخر) في الجامعة؟ نعرف الجامعة ودخلنا مراراً إلى مكتب الأمن إلى يسار المدخل (كان الزوار يتركون فيه بطاقة تعرّف عنهم ويسترجعونها عند انتهاء الزيارة)، ما رأينا عسكراً يوماً. من هو «الشبح»؟ كل هذه الأسئلة وجدت لها بعض الأجوبة في اليوم التالي: «الشبح» هو العميد. والعميد هو عميد بالمعنى العسكري، وهو متقاعد منذ خمس سنوات واسمه فادي غريّب وهو مُعيَّن في منصب «رئيس جهاز أمن الجامعة» (هل التسمية تليق، شكلياً على الأقل، بصرح أكاديمي؟)، وما لعبة الدخول عند العميد والخروج من عند «الجنرال»، سوى لإيجاد مخرجٍ معه، بعدما توارى وراء باب مكتبه (فقد اختفى بعد أن طردني ولم أره مجدّداً طوال المدة التي تلت تصرّفه المليشيويّ). كذلك، عاد المنظّمون واتصلوا بالجامعة في اليوم التالي بعدما أوضحت لهم أنني لن أسكت عن الحادثة، إلّا إذا تلقّيت جواباً مقنعاً لهذا التصرّف أو إذا اعتذرَت الجامعة، بلسان أي ممثّل عنها، وليس بالضرورة «الجنرال». علِمت أن هكذا حالات تحصل، وهذا طبيعي، ويتم الاعتذار عن سوء التفاهم، وأنها المرة الأولى التي تمتنع فيها الجامعة عن الإشارة إلى سوء تفاهم أو عن الاعتذار الشفهي، ولَو شكلياً. هنا قرّرت نشر الحادثة، ولكن قبل ذلك، كان لا بدّ من الهدوء والتفكير.

رتب الضباط صُمّمَت لتضع رؤوس أصحابها فوق النجوم ما ينعكس سلوكاً سلبياً لأسباب نفسية باطنية


أولاً، لماذا حدث ذلك؟ ما الشيء الذي ارتاب منه «الجنرال» لكي يترك 700 شخص من جمهور الأمسية ويراقب فرداً واحداً خرج من القاعة وخروجه مبرَّرٌ باستراحة معلنة؟ الشكل؟ الملبس؟ التصرفات؟ نسبة الكحول في الدم والمخدرات في البول في تلك الليلة كانت صفر (ليتني امتثلتُ لأوامر العميد وتمشّينا سوياً نحو «حبيش» للتأكّد من ذلك بشكل علمي ودقيق). اللحية خفيفة وهي أقصر من لحية رئيس الجامعة نفسه على أي حال. الثياب لائقة، من دون أي عبارات أو إشارات. حتى أنني كنت مرتدياً كنزة تشبه كنزة نجم هوليوود الصاعد، الرفيق زيلينسكي، صاحب الشعار العظيم: we want more weapons. وقد اشتريتها من «البالة» إثر غزو العراق... عفواً، أوكرانيا (أنا متأثّر جداً برؤساء الولايات المتحدة، وأكره فرويد) ورحت أرتديها تضامناً مع بَطلي المفضّل الذي أضعفَته عملية «طوفان الأقصى» بإرغامها جنوداً من «تساحال» على العودة إلى جبهة غزة بعدما كانوا يؤازرون الجيش الأوكراني ضد الدبّ الذي أدخله «فولودو» إلى كرمه مطبّقاً حرفياً مثَلنا الشعبي (راجعوا وثائقي صدر الشهر الماضي لـ«الفيلسوف» الصهيوني برنار هنري ليفي، بعنوان «أوكرانيا في القلب»). فكّرت أن مثل هذه الكنزة لا يمكن أن تزعج، في الجامعة الأميركية، ضابطاً متقاعداً، يقال إنّه عُيِّن في منصبه (في الجامعة) بتوصية من فريق السفارة الأميركية في لبنان، وإنّ علاقةً جيدة ربَطَته بالأميركيين، أثناء الخدمة العسكرية!
في الواقع، لم أجد تفسيراً سوى بالاستناد إلى النقطة الرابعة المذكورة في خلاصة المقدِّمة أعلاه (تقاعد الضباط). بكل محبة نقول للعميد غريّب: سِيدنا، لقد أعطيت الكثير الكثير من الأوامر وقد اعتدت تأهيب من كانوا بأمرتك، لنحو أربعين عاماً... لقد تعبت وضحّيت وخضت المعارك على كل الجبهات (باستثناء جبهة الجنوب، ربما). نحن نقدّر ذلك. لكن، ارتكاب الأخطاء وإهانة الناس والتعدّي على الحرية (لا تنسَ المشعل) لا يليق بتاريخك ولا بالجيش ولا بالجامعة التي ترأس جهاز أمنها حالياً. نحن لا نريد سوى أن نسمع بعض الموسيقى. ونحرص على ألاّ تفهم كلامنا على أنه أمرٌ (والعياذ بالله). هذا فقط تمنٍ أخوي: جنرال، استرِح... وسَمِّعنا!.