هل يمكن اليومية الحزبية، بالأساس، أن تنجح؟ طالما رأى الصحافيون المحترفون أن ذلك مستحيل أصلاً، حتى إن محمد حسنين هيكل رفض في بداياته المهنية رئاسة تحرير صحيفة إخوانية، لاعتقاده بحتمية فشلها، رغم أن الحركة في مصر، في أواسط الأربعينيات، كانت قد وصلت إلى ذروتها الجماهيرية.
إدارة «السبيل»، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أظهرت بالمقابل ميلاً للانغلاق، فلم تنفتح على الصحافيين والكتاب المحترفين من خارج صفوف «الإخوان». بل إن إدارة الصحيفة المقرّبة من الخط الحمساوي في الحركة الإسلامية الأردنية، استبعدت الخط الداخلي المنافس داخل الحركة، الذي ظلت قياداته تستخدم المنابر الصحافية العامة للتعبير عن رؤاها وتغطية أخبارها. والمفارقة أن هذا الخط برز أقوى على المستوى الإعلامي من دون أن يتجشّم عناء إصدار مطبوعة خاصة. غير أنّ أزمة يومية «السبيل» ربما كانت تعكس أزمة أكبر مما يمكن مناقشته. إنها أزمة خطاب، وأزمة سياسات، وأزمة حركة.
الحركة الإسلامية محكومة بالانضواء في حركة وطنية ديموقراطية لا تكون قياديّة فيها
الحركة الإسلامية محكومة بالانضواء في حركة وطنية ديموقراطية لا تكون قياديّة فيها
الزاد الديني يأخذه الجيل الجديد من دعاة مثل عمرو خالد. وهو خطاب يمنح الفئات الوسطى الحجة على الإسلاميين التقليديين، ويلقى رواجاً، لا بسبب موجة تدين «مودرن»، ولكن بسبب ما يمنحه من رخص حياتية باسم دعاة يحوزون الشرعية. وتشجّع العائلات هذا اللون الإسلامي لأنه يبتعد بأبنائهم عن العمل السياسي والتعصّب، ويُرضي، في الوقت نفسه، نزوعاتهم الدينية.
هذا ميدان خسرته الحركة الإسلامية الأردنية، وضمر بالتالي معينها الهيمني والاجتماعي. ويظهر أن استراتيجية النظام الأردني لاستيعاب الحركة التي اجتاحت المجتمع نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، واستقطبت حتى قطاعات علمانية، كانت فعالة للغاية. وتمثلت تلك الاستراتيجية في تقييد الحركة من خلال سلوك مزدوج، يمنحها في آن الشرعية وحق المشاركة السياسية، ويهجم عليها سياسياً وإعلامياً بطريقة منظمة، وهذا ما أدى إلى غلّ يدي الحركة عن الرد. وجرى في المقابل، التفاهم مع الحركة على عزل التيار الجهادي واستخدام الحد الأقصى من العنف ضده. وكسر كل ذلك الاعتراضات الإسلامية على فتح الأبواب بلا تحفّظ أمام مؤثرات العولمة في كل المجالات.
ومع ذلك، ظلت قوة الحركة الإسلامية الأردنية حاضرة بالنظر إلى عاملين: تمثيلها الضمني لفلسطينيي الأردن، وتمثيلها السياسي لحركة «حماس» ذات الشعبية في البلاد.
في انتخابات 2007 البلدية والنيابية، جرى توجيه ضربة موجعة لتأثير العامل الأول. فسواء عن طريق التزوير أو استخدام المال بكثافة، صعدت إلى تمثيل فلسطينيي الأردن عناصر من الوجهاء والتجار والمقاولين... وسبق ذلك وتلاه تكوين وسطاء جدد بين النظام وقاعدته الفلسطينية، هم القادرون على حل مشكلات الجنسية والإقامة والعمل، إلى آخر مشكلات الحياة اليومية. وسوف يعمل استبدال الوسطاء على تحوّلهم إلى ممثلين أكثر فعالية لقاعدة تتجه، تحت وطأة فشل المشروع السياسي الفلسطيني، إلى نبذ السياسة، والالتفات إلى مصالحها الحياتية الخاصة.
وبالنسبة إلى العامل الثاني، فإن شعبية «حماس» ـــــ التي تتجاوز الانقسام الديموغرافي السياسي في الأردن ـــــ بدأت تتآكل بصورة متسارعة تحت تأثير الآتي: 1ــ الانطفاء الموضوعي لصدقية وعودها بالمقاومة، فأكثر ما تطمح «حماس» له اليوم هو فك الحصار مقابل وقف إطلاق النار، 2ــ وهو ما يغلق أي أفق سوى الانكفاء إلى تأسيس إمارة إسلامية انفصالية في قطاع غزة. بل إن هذه الإمارة تتجه إلى أن تكون إمارة طالبانية تركّز على تحفيظ القرآن ونشر المدارس الدينية وتخوض معركة إجبار المحاميات على ارتداء الحجاب، بينما تعيش غزة حالة من البؤس الشديد، ولا تُبذل جهود لبناء جبهة وطنية للبناء والمقاومة تقدّم نموذجاً جديداً على المستوى الفلسطيني، 3ــ وعلى رغم بعض التصريحات العابرة لقياديين حمساويين ضد مشروعات الوطن البديل، فإن تجاهل «حماس» لتظهير موقف سياسي واضح وجدي وفاعل في مواجهة هذه المشروعات، دفع بجمهورها إلى الشك في كونها حليفاً يعتمد عليه.
على الصعيد الحزبي الداخلي، تعاني الحركة الإسلامية الأردنية من شلل ناجم عن انقسامها السياسي الفعلي بين تيارين: التيار الحمساوي والتيار المحلي. يريد الأول إخضاع استراتيجية الحركة في الأردن لدعم الحضور الإقليمي لـ«حماس»، بينما يريد الثاني الانفصال عنها وطرح برنامج ديموقراطي يتمثل في الملكية الدستورية. وقد أدّى التناحر بين التيارين إلى تسمية قيادة تقليدية للحركة للحفاظ على وحدتها التنظيمية، لكن ذلك لا يمكن أن يخفي حقيقة انشقاق الحركة إلى حزبين. مكانة الحزب الأول ترتبط بمآل الدور السياسي الممكن لـ«حماس» في القضية الفلسطينية، وحضورها الإقليمي ومستقبل علاقاتها مع عمان، بينما لا يستطيع الحزب الثاني الصمود وحده. فالحركة الإسلامية على العموم، ضعيفة في صفوف الشرق أردنيين، وليس لديها بينهم قاعدة لبرنامج ديموقراطي، ما سيفرض على التيار المحلي في الحركة، إذا ما أراد البقاء وتحقيق الفعالية، الانضواء في حركة وطنية ديموقراطية واسعة لا يمكن أن يكون للإسلاميين فيها، من الناحية الموضوعية، دور قيادي.
* كاتب وصحافي أردني