بدأ موسم الحج الى براد. القرية التي كانت منسية في جبل الزاوية في سوريا لم يكن يعرف بها إلا العلماء ومحبو المواقع الأثرية البيزنطية. ولكن اليوم باتت مركز حج بعدما اعتبرت البطريركية أن القبر المشيّد فيها هو للقديس مارون
جوان فرشخ بجالي
قبل أسابيع لم يكن يعرف قبر مار مارون في القرية السورية براد إلّا حفنة من الباحثين والمهتمين بتاريخ الطائفة المارونية، أما اليوم، فقد أصبحت البلدة جزءاً من تاريخ الطائفة، ومركز حجّ وصلاة. وسرعان ما ستبدأ النذور، ويصطفّ المؤمنون أمام «قبر» مار مارون، هل يهمّهم أن يعرفوا إذا ما كان هذا هو القبر الحقيقي لأبي الطائفة أم أنه الموقع المتفق عليه؟
يشرح أحد رجال الدين والمؤرخين الموارنة أن «عملية البحث عن القبر بدأت قبل نحو 6 أعوام، حينما طلب مطران أبرشية حلب من باحثين فرنسيسكان العمل على الموضوع من مبدأ أن على الموارنة الاستفادة من جذورهم التاريخية وإبرازها. فبدأت الدراسات، وارتكز الباحثون على كتاب «أصفياء الله» للأسقف تيودوروس القورشي، الذي وصف فيه حياة الراهب مارون. وقد كتب هذا الأسقف أن الراهب مارون عاش على تلة عليها معبد وثني، وبنى لنفسه كوخاً بالقرب منه، وقال إن التلة تقع بجوار مدينة كالوتا. وقيل إنه بعد وفاة الراهب مارون وقع خلاف بين القرى المحيطة بشأن مكان دفنه، وكتب أن أكبر البلدات وأقواها ضمّت الجثمان وبنت له قبراً واسعاً بالقرب من كنيستها، فكان مركز صلاة وحج». وتنتهي هنا المعلومات التاريخية عن القبر لتبدأ من بعدها عملية البحث في قرى جبل الزاوية المجاورة لبلدة كالوتة.
ويعرف المؤرخون وعلماء الآثار أن جبل الزاوية يزخر بالقرى البيزنطية، التي كانت تُطلَق عليها في بداية القرن الماضي تسمية «المدن الميتة»، بسبب ضخامة المباني التي شيّدت فيها قبل 1500 عام، والتي لا تزال في حال جيدة. منازل، معابد، قبور، حمامات عامة، معاصر... هي المباني المنتشرة في قرى جبل الزاوية، التي يتمايز بعضها عن بعضها الآخر بكبره أو صغره، والتي تُظهر أهمية القرية في الفترة البيزنطية. ويعرف علماء الآثار هذا، وقد نشروا عدداً كبيراً من المقالات والآثار عن هذه القرى.
وبعد دراسة المعالم الأثرية في هذه القرى وإجراء عدد كبير من المقارنات، توصّل المؤرخون الموارنة إلى فرضية أن القديس مارون دُفن في بلدة براد، عندئذٍ رأت البطريركية أن هذه الفرضية هي الأقرب إلى التصديق، وأعلنت براد مركزاً دينياً، مع العلم بأنه ما من إثبات حسي وحقيقي بشأن هذه النظرية.
ولكن، بما أن الاولوية اليوم هي لدعم تاريخ الموارنة بسرعة، لم يعمل على إقامة حفريات اثرية حول المدفن او في القرية للتأكد من النظرية، بل بدأ توافد الحجاج إليها.
والافت للانتباه هو أن الوائح الموزعة على الموقع، التي تشرح المباني التاريخية، لا تحدد مكان قبر مارون، بل تشير الى الآثار بحسب تعريف علماء الآثار لها. فهناك الكنيسة، والمقابر، والبيوت... وتقع قرية براد على سلسلة جبل الزاوية وتبعد 10 كم عن قلعة سمعان العمودي، ويعدّ موقعها الجغرافي الاستراتيجي السبب الاول لنموها الاقتصادي. وكانت في الفترة الرومانية قرية صغيرة مبنية حول هيكل وثني، ولكنها أصبحت في العصر البيزنطي إحدى أهم البلدات ومركزاً تجارياً مهماً. فشيّدت فيها حمامات عامة ومحال تجارية، وحوّل أحد سكانها، ويدعى جوليانوس، معبدها كنيسة ضخمة. فعرفت الكنيسة باسمه وشيّد في القرن الخامس قبر مار مارون ملاصقاً لها، فاشتهرت بلدة براد وبدأ عصر ازدهارها، وكانت مركزاً إدارياً وتجارياً ودينياً، وخاصة بعدما أصبحت مركز حج. وقبر مار مارون هو كنيسة بسيطة أضيفت إليها في القرن الخامس غرفة الى جهة الشمال ويرجح أنها استخدمت لإيداع ذخائر القديس مارون.

لم يكن يعرف ببراد إلّا محبّو المواقع الأثرية
وبقيت قرية براد مركزاً زراعياً وتجارياً مهماً حتى القرن السابع الميلادي الذي شهد بداية فترة انحطاطها. وما هي إلا عقود حتى تحولت البلدة، كباقي قرى جبل الزاوية، بيوتاً مهجورة وقرى ميتة. أسباب هجرة سكان هذه القرى لا تزال مجهولة، فهم رحلوا مع عدتهم وعدادهم ولم يخلفوا وراءهم ما يخبر عن سبب رحيلهم. ولأنهم لم يتركوا إلا أبنية فارغة من غير كتابات عليها أو حتى أغراض في داخلها، بات من الصعب جداً على العلماء التأكد من استعمال كل تلك المباني.
المنشورات الأثرية العلمية حول قرى جبل الزاوية تشير إلى «وجود ضريح لقديس ملاصق لكنيسة جوليانوس»، وتقول تلك المنشورات إن نظريات المؤرخين بدأت ترتئي أنه قبر مار مارون، ولكن دون دليل واضح أو كتابة ما تبقى النظرية مجرد فرضية.
وقد يعيد التاريخ نفسه، فقبل سنين كان الحجاج الموارنة يتوجهون إلى قرية سرجيلا البيزنطية لأنه في حينها كانت النظرية تقول إن القديس مارون دفن هناك...