هدف قيادة العدو هو أن تحفر هذه العمليات في وعي المقاومين أنهم ليسوا في مأمن
وتحتلّ الضفة، موطن «المقاومين الجدد»، موقعاً خاصاً في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي، بسبب مساحتها وموقعها الجغرافي الذي يتاخم كيان الاحتلال في فلسطين المحتلة عام 48، في الشمال والوسط والجنوب، وهو ما جعلها تشغل رأس أولويات القيادتَين السياسية والأمنية، وتفرض عليهما التعامل بحزم وحسم مع أيّ ظاهرة مقاومة هناك منعاً لتصاعدها واتّساعها، مع أن التجربة تؤكد فشل هذه السياسة التي بدا أنها تساهم أيضاً في تسريع إعادة إنتاج تلك الظواهر بصيغ وأشكال جديدة. وفي هذا السياق، وجدت سلطات العدو، منذ تبلور مجموعة «عرين الأسود» كقوّة «ثورية» بحسب تعبير «معهد أبحاث الأمن القومي»، نفسها أمام تحدّي اتّخاذ قرار ناجع إزاء المجموعة. إذ ثبت، من خلال التجربة، أن سياسة الاحتواء معها غير مجدية، بل قد تساهم في تمدّدها ومنحها هامشاً أوسع في المبادرة. وفي الوقت نفسه، فإن الظروف القائمة لا تسمح بتنفيذ عملية مشابهة لعملية «السور الواقي» (الاجتياح الإسرائيلي لشمال الضفة في نيسان 2002). وفي ضوء القيود المتقدّمة، اختارت قيادة الاحتلال تكتيك العمليات الخاصة الموضعية، فبادرت إلى إعادة تفعيل سياسة الاغتيالات المركّزة، التي استهدفت عبرها بدايةً أحد قياديي «عرين الأسود» تامر الكيلاني، وتَكرّر الأمر بأسلوب مختلف عبر عملية خاصة نفّذتها قوات العدو فجر أمس في مدينة نابلس، وأدّت إلى استشهاد 5 فلسطينيين، بينهم القيادي البارز في المجموعة المقاوِمة وديع الحوح، وجرح آخرين. لكن هذا التكتيك يحتاج إلى وقت أطول لتحقيق أهدافه، على فرْض إمكانية تَحقّقها، وقد تتخلّله ردود فعل أشدّ وقعاً، وليس من الواضح طبيعة وحجم التداعيات التي يمكن أن تترتّب عليه.
مع ذلك، ينبغي عدم إغفال حقيقة أن قادة العدو كثيراً ما يحاولون تعزيز مكانتهم الشعبية عبر سياسات أكثر تطرّفاً في مواجهة الشعب الفلسطيني. وإذا ما كانت الأجواء تسمح بعمليات عسكرية، فإن ذلك يشكّل بالنسبة لهم فرصة لـ«الاقتراع بدماء الفلسطينيين». وفي هذا الإطار، يأتي حديث رئيس حكومة العدو، يائير لابيد، عن أن «إسرائيل لن ترتدع عن العمل من أجل أمنها». ومع أن هذا الموقف تقليدي في سياقه ومناسبته، إلا أنه يهدف أيضاً إلى محاولة توظيف العمليات ضدّ «عرين الأسود»، على المستوى الانتخابي. وهو مشهد يحتاج إليه لابيد، ووزير أمنه بني غانتس، في مواجهة اليمين الإسرائيلي، عبر الإيحاء بأنهما ليسا أقلّ تطرفاً وإجراماً بحق الشعب الفلسطيني، على أمل أن يساهم ذلك في استقطاب جزء من جمهور يمين الوسط على الأقلّ، وأيضاً تبديد الصورة التي يحاول أن يروّجها نتنياهو عنهما، حول «عدم كفاءتهما في مواجهة المخاطر الأمنية».
لكن الهدف الأهم لقيادة العدو، يتمثّل في أن تحفر هذه العمليات في وعي الشباب المقاوِم، أنه ليس في مأمن من استهداف أجهزة الأمن الإسرائيلية. كما تُراهن على إسهامها في تحويل أولوية المقاومين نحو الحفاظ على حياتهم كأفراد، ووجودهم كمجموعات، بدلاً من الانهماك في التخطيط للمبادرة إلى عمليات قاسية. لكن نموذج الشهيد عدي التميمي أنذر بسقوط هذا الرهان، حيث الخوف الإسرائيلي يكمن الآن في أن يتحوّل الخيار الذي انتهجه التميمي إلى نموذج يُقتدى به. وبذلك، يتحوَّل كلّ مقاوم مطارَد إلى مطارِد.
في الخلاصة، وأياً كان ما ستؤول إليه هذه المواجهة بين «عرين الأسود» وقوات الاحتلال، إلا أن القدر المتيقّن هو أنها ستكون محطّة جديدة تجسّد تصميم الشعب الفلسطيني على مواصلة مقاومته على رغم كلّ الظروف القاهرة داخلياً وإقليمياً. كما أنها تُظهر ارتقاءً في الأسلوب، حيث يثبت الشعب الفلسطيني مجدّداً أنه قادر على ابتداع المزيد من الأساليب حيال إجراءات العدو، وإحداث قفزة إضافية في سياق مسار يتكامل مع المسار التصاعدي لمحور المقاومة عموماً.