بعد سنتَين من الاغتيال، يتكشّف أن الولايات المتحدة وإسرائيل لم تُحقّقا أيّاً من رهاناتهما الاستراتيجية
وإذا كان التقدير المتقدّم كافياً للدفْع في اتّجاه خيار مضادّ أريدَ منه فرملة هذا المسار وإحباطه، فقد جاءت عملية اغتيال سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس ترجمة للآمال الإسرائيلية في تَحوُّل العملية إلى محطّة مفصلية على طريق إضعاف «محور المقاومة». صحيح أن أحداً لا يستطيع تجاهُل حجم الضربة التي تلقّاها «المحور»، ولا آثار غياب الرجلين كلٌّ في موقعه ودوره، إلّا أن ذلك ليس مفاجئاً بالقياس إلى حجم المعركة. فبعد كلّ ما حَقّقته قوى المقاومة، كان الأميركي، ومعه الإسرائيلي، يحتاجان إلى حركة كفيلة بردْع إيران وإرباك خياراتها الاستراتيجية وهزّ ترابُط محورها، وهو ما لم يكن ليتحقّق، من وُجهة نظر واشنطن وتل أبيب، سوى من خلال استهداف شخصية جامعة لكلّ هذه الساحات والأبعاد، كقائد «قوة القدس». لكن اليوم، وبعد سنتَين من الاغتيال، يتكشّف، من خلال الأداء الإسرائيلي والتطوّرات التي تشهدها البيئة الإقليمية، أنه باستثناء فقدان الشهيد سليماني، لم تُحقّق الولايات المتحدة وإسرائيل أيّاً من رهاناتهما الاستراتيجية؛ فلا إيران ارتدعت، ولا هي أظهرت مرونة في خياراتها ومواقفها، ولا مشروع بناء قدرات «محور المقاومة» وتطويرها تراجَع أو تفرمل، بل تُظهر مناورات جيش العدو تعاظُم المخاطر المحدقة بالأمن القومي الإسرائيلي، وتعزُّز القناعة في الكيان العبري بضرورة الاستعداد لمواجهة سيناريو حرب متعدّدة الجبهات، في تعبير صريح عن مدى حضور ترابط الساحات لدى جهات التقدير والقرار في تل أبيب.
مع ذلك، شكّلت عملية الاغتيال مرحلة الذروة في السعي لوضع إيران أمام خيارَين: إمّا الارتداع والخضوع تجنّباً لمواجهة عسكرية مباشرة مع الجيش الأميركي، وإمّا الردّ بطريقة تستدرج ردّاً أميركياً مضادّاً متدحرجاً يهدّد بقاء النظام أو يُقوِّض قدراته على الأقلّ. لكن الخيبة الإسرائيلية كانت مدوّية من عدم تَحقّق أيٍّ من السيناريوَين المذكورَين؛ فالخيارات الإيرانية النووية والعسكرية والإقليمية لا تزال على حالها، والولايات المتحدة لا تزال منذ قصف «قاعدة عين الأسد» التابعة لها في العراق بالصواريخ الباليستية الإيرانية، ترفض الانجرار إلى المواجهة المنشودة في تل أبيب، والتي تحتلّ رأس رهانات الأخيرة، باعتبارها الخيار الوحيد الذي يمكن - من منظور إسرائيلي - أن يكبح التطوّر الإيراني. ولعلّ ما نقله الصحافي الإسرائيلي، باراك رافيد، في كتابه «سلام ترامب»، عن مسؤول أميركي من أن «ترامب غضِب جدّاً على نتنياهو، وقال في ذلك اليوم إن الاسرائيليين مستعدّون لقتال إيران حتى آخر جندي أميركي»، يجلّي تلك الخيبة بوضوح.
أمّا من الجانب الإيراني، وعلى رغم أن الردّ على اغتيال سليماني لم يكتمل حتى الآن، إلّا أن قصف «عين الأسد» شكّل بذاته محطّة تأسيسية عزَّزت حالة الردع لدى الجمهورية الإسلامية. ويكفي للدلالة على الأبعاد والرسائل الاستراتيجية التي انطوت عليها الضربة الصاروخية، تَخيُّل النتائج التي كانت ستتوالى لو أن إيران امتنعت عن الردّ العسكري المباشر تحت شعار تَجنُّب الوقوع في الفخّ الإسرائيلي - الأميركي، حيث ستَظهر، والحال هذه، في صورة المرتدِع، وبمنسوب خطير جدّاً في مواجهة الجيش الأميركي، مُعزّزةً القناعة في واشنطن وتل أبيب بجدوى الخيار الأخطر، المتمثّل في استهداف إيران عسكرياً، من دون التورّط في مواجهة مفتوحة من شأنها إشعال المنطقة وتهديد إسرائيل. إلّا أن الأداء السياسي والعسكري الإيراني أفلح في قطْع الطريق على كلّ تلك السيناريوات، لتنْجح طهران في احتواء هذا المفصل الرئيس في تاريخها وتاريخ المنطقة، ومواصلة زخمها النووي والصاروخي والإقليمي، وصولاً - بعد سنتين على الاغتيال - إلى التموضع في موقع أقوى تفاوضياً وسياسياً وعسكرياً.