لكن هذه التفسيرات لم تُغيّر من حقيقة أن نسبة المشاركة كانت ضعيفة جدّاً، قياساً إلى الحملة الدعائية الكبيرة التي تمّ تسخيرها على وسائل الإعلام العمومية والخاصة لتمرير المشروع. وشهدت الأشهر الأخيرة التي صاحبت إطلاق المسار الدستوري، بحسب ما أجمع عليه حقوقيون مستقلّون، حملة تضييق واسعة شملت غلق وسائل الإعلام أمام المعارضة، وتكثيف الاعتقالات في صفوف نشطاء الحراك، ومنع أحزاب من تنظيم نشاطاتها، بما لم يسمح بإثارة نقاش جدّي حول التعديل الدستوري، وعزّز من دوافع الرفض لدى الجزائريين الناقمين على الوضع. وهذا ما يُعدّ، بحسب الرافضين لمبرّرات السلطة، واحداً من الدوافع «الحقيقية» للمقاطعة. كما تعزو قراءات أخرى ظهور موجة رافضة للتعديلات إلى خيبة الأمل من مضمونها، الذي أبقى على النظام نفسه من حيث احتفاظ رئيس الجمهورية بصلاحيات واسعة، وهيمنته على السلطتين التشريعية والقضائية، وتهميش منصب رئيس الحكومة، واللجوء إلى منطق التعيين بدل الانتخاب في اختيار أعضاء سلطة تنظيم الانتخابات، ناهيك بالنقاش حول الهوية الذي أثاره التعديل المقترح، بعدما انتفضت أحزاب إسلامية وعروبية ضدّه، واعتبرته مقدمة لعلمنة المجتمع الجزائري وسلخه عن بعده الحضاري العربي - الإسلامي. وهي تأويلات، على رغم تأكيد الرئيس نفسه عدم صحتها، إلا أنه تمّ تبنيها على نطاق واسع وخلقت انطباعاً سلبياً حيال النص المعروض للاستفتاء.
كان تبون يراهن بقوة على هذا الاستفتاء لبداية عهد ما يسميه «الجزائر الجديدة»
وفي ردود الفعل بعد ظهور النتائج، ذهب بعض السياسيين إلى حدّ المطالبة بمراجعة هذا الدستور وعدم تمريره. واعتبرت «حركة مجتمع السلم»، وهي أكبر حزب معارض في البرلمان، أن نسبة المشاركة المتدنّية وحجم الرفض للدستور بمختلف أنواع التعبير يسقطان مصداقيّته ويفقدانه شرعيته السياسية والشعبية على رغم الإمكانات الرسمية الضخمة التي استُخدمت لتمريره. وأضافت الحركة، التي كانت دعت إلى التصويت بـ«لا»، أن جبهة الرفض هي جبهة واحدة وواسعة جداً، فاقت الـ 85 بالمئة إذا تمّ جمع المقاطعين والمصوّتين ضدّ المشروع، متابعةً أن نتيجة الاستفتاء تؤكد فشل مشاريع السلطة الحاكمة وعدم قدرتها على تحقيق التوافق الوطني حول الدستور.
أما «حزب التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية»، المقاطع للاستفتاء، فرأى، من جهته، أن إصدار دستور رَفَضه أكثر من 85 بالمئة من الجزائريين يُعدّ تمهيداً لطريق الفوضى التي تحمل كلّ المخاطر. وحمّل الحزب المعارض السلطة الحالية المسؤولية كاملة عن هذا الوضع، داعياً إلى توفير كلّ الشروط أمام الشعب ليُقرّر بنفسه سيادته. وينتمي «التجمّع» إلى «تكتّل البديل الديمقراطي» الذي رفض بشكل كامل مسار الانتخابات الرئاسية الأخيرة، واستمرّ بعد ذلك رافضاً للتعديل الدستوري الذي أطلقه الرئيس عبد المجيد تبون، ولم يشارك في صياغة أيّ اقتراحات حوله.
وعلى الرغم من عدم وجود إشكال قانوني يعترض الدستور الجديد، إلا أن القراءة السياسية الأولية للنتائج تشير إلى تلقي السلطة الحالية ضربة قوية؛ إذ كان الرئيس تبون يراهن بقوة على هذا الاستفتاء لبداية عهد ما يسميه «الجزائر الجديدة»، كما أنه كان يبحث من جانب آخر عن تقوية موقعه وتعزيز شرعيته الشعبية ردّاً على المشكّكين في نتائج الانتخابات الرئاسية التي حملته إلى قصر المرادية. وتزامنت كلّ هذه الأحداث مع وجود تبون خارج البلاد لتلقي العلاج في ألمانيا بعد إصابته على الأرجح بفيروس كورونا. وزاد غياب الرئيس من الجدل المصاحب لنتائج الاستفتاء، وخاصة أن القانون يفرض وجوده من أجل التوقيع على الدستور وإصداره في الجريدة الرسمية حتى يصبح ساري المفعول.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا