قبل شهر من انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة (بين 6 و9 حزيران)، حطّت رئيسة المفوّضيّة الأوروبية الألمانية أورسولا فون دور لاين في بيروت أمس، يرافقها الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليسدس، في أول مبادرة لها تجاه لبنان.ولم تكن زيارة فون دير لاين، المغضوب عليها ألمانيّاً، والملاحقة بالتحقيقات البلجيكية في ما بات يُعرف بـ«فضيحة فايزر»، لتحصل، لولا الخشية الجديّة التي تتكوّن في الاتحاد من انفجار الوضع اللبناني، بين الجبهة الجنوبية واندلاع نزاعات داخلية واسعة وقودها النازحون السوريون، ولولا الحاجة إلى طمأنة القبارصة.
إعلان مبهم حول دعم لبنان بمليار يورو على 4 سنوات (أ ف ب)

من السراي الحكومي إلى مقر الرئاسة الثانية في عين التينة، ومن الاجتماعات المغلقة إلى التصريحات العلنية، لم تقارب فون دور لاين جوهر الأزمة مرّة واحدة. بل دارت وحارت كي لا تصيب الهدف الذي يحتاج إليه لبنان تحديداً بدعم عودة النازحين إلى سوريا بدل إدارة الأزمة، واكتفت بإعلان مبهم حول دعم لبنان بمبلغ مليار يورو على 4 سنوات. حتى إن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لم ينجح بدوره في توضيح حقيقة الحزمة المالية الأوروبية في مقابلته ليل أمس، وبقيت أجوبته ملتبسة من دون أن يكشف أصل المساعدة ونوعها وتقسيماتها، رافضاً اعتبارها رشوة.
عمليّاً، كرّست تصريحات فون دير لاين عدّة أمور، أهمها أن الاتحاد الأوروبي لم يغيّر من مقاربته تجاه دعم العودة إلى سوريا، لأنه لم يغيّر مقاربته تجاه الملفّ السوري بشكل عام. وعلى العكس من ذلك، تؤكد المهل الزمنية والمبلغ الزهيد الذي أعلنت عنه رئيسة المفوّضية، أن الاتحاد لا يزال يركّز على استيعاب الأزمة عبر المساعدات الزهيدة التي تُقدّم لهم في لبنان ورفض تقديمها لهم في سوريا كتشجيع على العودة، واعتماد سياسة تعزيز الأمن عبر ضبط البحر لمنع النازحين من الانتقال إلى أوروبا. وهنا، مرّرت رئيسة المفوّضية في إطار الحديث عن دعم الجيش، أنه «سيكون من المفيد جداً للبنان أن يبرم ترتيبات عمل مع الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس)، خصوصاً بشأن تبادل المعلومات والوعي بالأوضاع».
وأمام تأكيدات ميقاتي والرئيس نبيه برّي (طرح تشكيل لجنة لبنانية أوروبية للمتابعة) على أن المساعدات التي تُقدّم إلى النازحين يجب أن تُقدّم لهم في سوريا، خرج بيان بعثة الاتحاد الأوروبي مساءً لينسف حتى ما ذكره الرئيس القبرصي بأن هذه المساعدات ستكون من نصيب اللبنانيين، إذ أوضح البيان العمليات التي ستُوزّع عليها الأموال، ستكون «دعم الخدمات الأساسية للفئات الأكثر ضعفاً في لبنان، بمن فيهم اللاجئون والمهجّرون داخلياً والمجتمعات المضيفة»، و«المساعدة في الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي»، و«دعم إدارة الحدود والهجرة، وتعزيز الدعم المقدّم إلى الجيش اللبناني».
إعلان مبهم حول دعم لبنان بمليار يورو على 4 سنوات


ولم تنسَ فون دير لاين أن تعيد التذكير بسياسات الاتحاد الأوروبي الانتقائية للهجرة والاندماج، بوعدها بمتابعة إعادة توطين اللاجئين من لبنان إلى الاتحاد الأوروبي «تطميناً» للبنانيين، وهي في الواقع، تعلن عن السياسة العنصرية التي تعني انتقاء أوروبا من تريد من النازحين «المناسبين» من صغار السن وأصحاب الاختصاص والحرف، والإبقاء على من لا يشكّلون إضافة إلى اليد العاملة في الاقتصاد الأوروبي.
لكن مع ذلك، يزداد الانقسام بين دول الاتحاد الأوروبي، ولا سيّما بين ألمانيا وفرنسا، ودول حوض المتوسط الأوروبية بالإضافة إلى تشيكيا وبلغاريا مع تمايز للموقف النمسَوي، بمقاربة الملفّ السوري من زاوية ضرورة التعاون مع الحكومة السورية ودعم تعافي البلاد لحل أزمة الهجرة ومساعدة لبنان على إعادة النازحين وغيرها من الهموم المشتركة بين سوريا ولبنان وأوروبا.
وتقدّم زيارة وزير الخارجية التشيكي يان ليبافسكي لدمشق أول من أمس، ولقاؤه وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، مؤشراً إضافياً إلى تباين المواقف والمقاربات، إذ إن التشدّد الألماني والفرنسي الذي يظهر في كل ما يتعلّق بسوريا، لا يمنع الحوار السوري - الإيطالي وقرب رفع سوريا مستوى تمثيلها الدبلوماسي في روما، ولا يؤثّر في موقف تشيكيا التي حافظت على علاقات جيدة مع دمشق وتسعى إلى تعيين سفير جديد لها مع قرب انتهاء خدمة السفير الحالي. أضف إلى ذلك أن السفارة التشيكية في سوريا ترعى المصالح الأميركية، وتعطي الزيارة أيضاً مؤشراً إضافياً إلى بدء إدارة الرئيس جو بايدن«مفاوضات الإشارات» مع دمشق، مع اقتراب الانتخابات الأميركية طمعاً بصفقة ما تعيد أوستن تايس، من دون أن تظهر آفاق أعمق حتى الآن.
لكن ماذا عن لبنان؟ الأمر الجيّد الوحيد، أن لبنان نجح في الحصول على دعم مالي وسط كل هذا القحط، ولو من دون أي حلول عمليّة للأزمة. فحتى رمي مهمّة ترحيل السوريين على الأمن العام اللبناني كما فعل ميقاتي في مقابلته أمس، مستندةً إلى الاتصال الذي أجراه برئيس الحكومة السوري حسين عرنوس، وما قاله عن أن سوريا ترحّب بالنازحين العائدين، لا يقارب الواقع. فلا الأمن العام باستطاعته القيام بعمليات ترحيل قسرية إلى سوريا، ولا السلطة السياسية بأكملها ستحتمل نتائج مثل هذه الخطوات أمام الدول الداعمة وحتى أمام جزء كبير من اللبنانيين، ولا الدولة السورية باستطاعتها استيعاب أعداد كبيرة من العائدين من دون الموارد المالية اللازمة، في حين تزداد أعداد الراغبين بالهجرة جراء الحرب وانهيار الاقتصاد والعقوبات الغربية.