في احتفال الشعانين يحيي المسيحيّون ذكرى دخول يسوع المسيح إلى مدينة أورشليم-القدس. لكن ما علاقة هذا بحياتنا هنا والآن؟ لو كان الأمر مجرّد ذكرى لما كان لها من معنى، والمؤمن يجتهد أن ينقّب في الأحداث عن المعاني. تخبر النصوص الإنجيليّة أنّ يسوع، «ملك الملوك»، دخل مدينة أورشليم على جحش وأنّ الناس فرشوا له ثيابهم وأغصاناً من الشجر على الطريق. فإذا بالمشهد يحمل سمات ملكيّة ليدلّ على «ملوكيّة» يسوع كما يراها ذهن الذين تبعوه، ولكنّه ملك واضح التواضع. لهذا، فإن تعلّم الذين يحبّون يسوع شيئاً فهو أنّ مجد هذا الملك يسطع في تواضعه ووداعته. لا يمكن التواضع بأن يخفض الإنسان نفسه أو مواهبه أو يحتقر ذاته أو يقبل باحتقار الآخرين له، وإنّما بأن لا يستعلي. وتقول نصوص تلاميذه بأنّه بعد بضعة أيّام وقبل الصلب بقليل طلب يسوع من تلاميذه أن يغسل لهم أرجلهم، فتصرّف بينهم كالخادم، وهذا كان خطوة ثانية في الإيضاح بأنّ ملوكيّة هذا المسيح تكمن في خدمة حياة الناس. وأخيراً كانت الخطوة الأخيرة بموته «من أجل حياة العالم» «لتكون الحياة، وتكون أوفر»، كما قال بنفسه.
الموت من أجل حياة الآخرين، الموت حبّاً بالآخرين (وليس حبّاً بالموت) كان قمّة تعبير يسوع عن ملوكيّته، عن كونه «كلمة الله». إن أراد المسيحيّون أن يسيروا مسار يسوع، أي أن يكونوا، بالفعل لا بالقول، مسيحيّين، كان عنوان حياتهم عدم الاستعلاء وبذل الذات من أجل حياة الناس، كون الكلمة الإلهيّة الأبلغ قيلت بيسوع نفسه حبّاً، متواضعاً خادماً للحياة، لا يتزعزع حتّى أمام الموت. لا يصبح الإنسان مسيحيّاً بتطبيق جملة من الطقوس، بل بالسير مسار يسوع نفسه، بحبّه لهذا الشخص الذي قال عن نفسه إنّه «الطريق والحقّ والحياة» وتقفّي خُطاه، ومن سيرته تعلّمنا أنّ الحبّ هو طريقنا إلى الحياة، حتّى ولو كلّفنا ذاك الموت، لأنّ بالحبّ الخادمِ للحياة يكون كلّ إنسان – علِمَ أم لم يعلم - مع يسوع وبذلك ينتصر على الموت لأنّه يكون مع الذي قال: «أنا هو القيامة».
لا ينبغي لمن أحبّ يسوع أن يحبّ الموت، بل أن يرمي الاستعلاء عنه لينضمّ إلى الذين رموا أمام يسوع ثيابهم ليستقبلوه ملكاً على قلوبهم، وينبغي أن يحبّ الحياة ويخدمها مواجهاً خوفه من الموت، معنويّاً كان أو جسديّاً. هكذا يستقبل المحبّون يسوع في قلوبهم، فتصبح القلوب عرشاً لله، ويقوم يسوع بطرد تجّار الدين منها، أولئك الذين يبدّلون كلامَ الله، كلامَ خدمة الحياة والحبّ، بخطاب العنصريّة والاستعلاء والطائفيّة والانعزال والخضوع لقوى الموت من طغيان، واحتلال، واضطهاد، وقتل للأبرياء في غزّة والضفّة وكلّ مكان.
وإذا كانت القلوب عرشاً يعبر الحبّ المناضلُ من أجل الحياة عبابَ الموت المفروض عليه، ليهزم قوى الاستعمار والاحتلال والاستغلال والبطش في فلسطين والمنطقة، ونرى يسوع داخلاً من جديد المدينة العظيمة لتتألّق هي بالوداعةِ وبلادنا بالسلام.

* كاتب وأستاذ جامعي