مقالات للكاتب

بدر الحاج

السبت 1 آذار 2025

شارك المقال

الجنوب في «زمنهم الجميل»


يتباهى بعض اللبنانيين بما يسمونه «الزمن الجميل» الذي يعني بمفهومهم أن كل ما في لبنان كان جميلاً ومزدهراً قبل الحرب الأهلية، لذلك يحنون إلى ذلك الزمن. سياحة مزدهرة، وودائع أموال النفط تتراكم في المصارف، ومهرجانات بعلبك تستضيف أشهر الفنانين في العالم مع تنازل يسمح لفنانين بأداء بعض البرامج بالعربية في القلعة التاريخية، إلخ. لكن لا غضاضة في أن يكون جميع من يقطنون حول القلعة والقرى البقاعية غارقين في البؤس والفقر والإهمال. المهم أن الذوات والأغنياء يستمتعون بذلك «الزمن الجميل»!

لكن دعونا نبحث كيف كان هذا اللبنان وفقاً لذلك المفهوم؟ هل يشمل ذلك الوصف الرومنسي أيضاً مناطق الشمال أو البقاع أو الجنوب؟ حتماً لا. هذه مناطق ألحقها الجنرال الفرنسي غورو بالجبل وبقيت على ما كانت عليه، تتشارك في ما بينها في الفقر والجهل والأمراض والعطش أيضاً. لا ميزة لطائفة على أخرى، فقد وحّد الفقر هؤلاء اللبنانيين. من استطاع الهجرة غادر ولم يعد، ومن بقي نزح إلى ضواحي المدن الكبرى وخاصة بيروت. ومع الأيام اعتبر النازحون بأنهم «لا يشبهوننا». إنه تعريف منطقي عند غلاة العنصريين، ولا عجب إن أفصحوا عن مكنوناتهم المستترة في عبارة «العيش المشترك» الذي هو حبر على ورق، أو في ما سُمي نفاقاً وتكاذباً «الميثاق الوطني» وهو عبارة عن تخدير مؤقت، وعند أول حادث يظهر الطائفيون ما يضمرونه، ولا غرابة في أن يلجؤوا إلى الغريب لسحق من ينافسهم من «الأعداء» من أهل البلد.

وإذا كانت الأقضية الأربعة الملحقة بالجبل موحدة في الفقر والتهميش، فالجنوب كان الأكثر تضرراً لوقوعه بالقرب من مشروع الاستيطان الصهيوني. ولم يكن مهمشاً فقط من قبل العهود التي حكمت لبنان على مر العقود، بل كان ضحية عدوانية صهيونية متواصلة من دون أي ردع، وكأن أهله وأرضه وثرواته ليست من لبنان.

في مراجعة للصحافة اللبنانية ما بين عشرينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا يمكن لأي باحث أن يرصد آلاف الاعتداءات الصهيونية على القرى الجنوبية. وفي ذلك الوقت لم يكن «حزب الله» موجوداً كي تلصق به، كما اليوم، الاتهامات بأنه السبب، بل كان هناك قادة إقطاعيون أثروا من بيع الأراضي للوكالة اليهودية، وهيمنوا على منطقة الجنوب.

وعندما اختلفوا مع بعضهم البعض فضحوا أنفسهم، والمثال على ذلك ما نشرته صحيفة «الهدف» لصاحبها زهير عسيران في صفحتها الأولى عام 1945 لصورة وثيقة محفورة على الزنك موقعة من قبل «معالي الوزير أحمد بك الأسعد» تشير إلى بيعه أراضيَ كان يملكها في العديسة للوكالة اليهودية. وكان الأسعد وزيراً للدفاع في ذلك «الزمن الجميل»، وقد سبق له أن أقدم سابقاً ولاحقاً على بيع أكثر من عقار... وهكذا تحققت السياسة الدفاعية في «الزمن الجميل».
وللأمانة نشير إلى أن الأسعد لم يكن وحيداً في السمسرة وبيع الأراضي، كثيرون غيره سال لعابهم أمام منظر أموال أسرة روتشيلد المتدفقة لشراء الأراضي لمصلحة الاستيطان اليهودي.

لكن في هذا الزمن الذي يحتل العدو فيه قرى لبنانية، يقصفها جواً وبراً، يفجّر منازلها ويحرقها، يفلح طرقاتها، يسرق أشجارها، يأسر سكانها أو يقتلهم، يهجّر أهلها، إضافة إلى قصف مباشر لمواقع الجيش اللبناني واستشهاد عشرات العسكريين حيث لا رد فعل إطلاقاً من قبل السلطة العاجزة. في هذا الزمن لا نستغرب صمت السلطة، هذا الأمر ليس بجديد، لبنان الرسمي عبر تاريخه مستقيل تماماً من مهمة الدفاع عن مواطنيه وخاصة الجنوبيين منهم، وكذلك عن جيشه باستثناء عهد الرئيس إميل لحود. يتباهى زعامات الدكاكين الطائفية بما سمّوه «قوة لبنان في ضعفه» أو أن الأمم المتحدة تحمينا، وأن الدول الكبرى ستتدخل لمصلحتنا وما شابه ذلك من مهازل وترهات متواصلة يدفع ثمنها أبناء الجنوب. وفي المقابل لا يشعر بالألم والفقر والحرمان إلا من يعاني ذلك كله.

هذه هي أحوال أبناء جنوب لبنان التي انقلبت رأساً على عقب منذ بدأ المشروع الاستيطاني سياسة التوسع شمالاً قبل الحرب العالمية الأولى. كان معظم أبناء الجنوب يعملون في فلسطين، فهي الأقرب إليهم، ووضعها الاقتصادي أفضل من الوضع في لبنان. ومنذ النصف الأخير من القرن التاسع عشر اشترى متمولون لبنانيون وسوريون مساحات شاسعة في فلسطين. بعض أهالي الجنوب كانوا يملكون مزارع في الجليل، وكانت مورد رزق لهم. لكن الاستيطان اليهودي المدعوم من البريطانيين واصل زحفه تدريجياً نحو الشمال ليبتلع الأرض التابعة للبنان الكبير بعد تراجع فرنسي.

منذ ما قبل ثورة فلسطين الكبرى عام 1936 وحتى اليوم وجنوب لبنان في عين العاصفة


منذ ما قبل ثورة فلسطين الكبرى عام 1936 وحتى اليوم وجنوب لبنان في عين العاصفة. وبعد أن يأس الجنوبيون من دولة تحميهم لجؤوا إلى حمل السلاح بعد احتلال أرضهم. ولم يدافعوا بسلاحهم عن أنفسهم فقط، بل حرروا عاصمة لبنان والقسم الأكبر من أرضه المحتلة. فليتذكر اللبنانيون ذلك، علّ الذكرى تنفع. نعم كان هناك لبنانيون صفقوا وتعاونوا مع المحتل الذي احتل الجنوب والعاصمة بيروت، ولكن في المقابل هناك لبنانيون سقوا أرض لبنان بدمائهم كي تتحرر. هذا تاريخ لا يمكن لأحد إنكاره. واهم من يعتقد أن إسرائيل شاركت في الحرب الأهلية نصرة لطائفة على أخرى. سبب مشاركة إسرائيل وتدريبها وتسليحها فئات في لبنان لخصه بصراحة مناحيم بيغن في تصريح حين قال سنتوجه إلى بيروت ونقتلع السرطان منها، وهو يعني بذلك منظمة التحرير الفلسطينية.

سأحاول باختصار شديد الاستعانة بوصف دقيق كيف كان الجنوب في «زمنهم الجميل» قدمه شاهد عيان ومسؤول في السلطة اللبنانية هو الراحل السيد غالب الترك الذي كان يتولى منصب محافظ الجنوب. يقول الترك في محاضرة عن أوضاع الجنوب ألقاها في الندوة اللبنانية (نشرة كانون الثاني - شباط 1961): «إن الأربعمئة وخمسين بلدة وقرية ومزرعة يفتك بها الفقر والجهل والعطش. لا وجود للمياه في القرى، يجمع الجنوبيون ماء المطر في بركة القرية، هذه البركة هي منهلهم الوحيد، يغسلون فيها ثيابهم، يشربون منها ويسقون مواشيهم، ولكن هذا المنهل لا يلبث أن ينضب، لذلك يتسلقون الجبال ويهبطون الأودية نساء ورجالاً، سعياً وراء قطرة الماء.

إن الصهريج الذي تنعم به الحكومة على القرية مرة بالأسبوع أو الأسبوعين، يحتاج إلى مفرزة درك لحمايته. أما العناية الصحية، فمعدومة، لا مستشفيات أو ممرضات أو أطباء، اثنان وخمسون طبيباً خاصاً فقط، منهم واحد وعشرون في صيدا، وطبيب واحد في حاصبيا، واثنان في بنت جبيل فقط. في كل الجنوب مستشفى واحد غير مكتمل في صيدا، أطباؤه يعملون بالتعاقد، وفي مرجعيون مستشفى حرمون الذي شيده المغتربون. أما مستشفى تبنين، فآيل إلى الخراب بعد عشر سنوات من بنائه. أما الصيدليات، فمعدومة، باستثناء ست منها في صيدا، واثنتين في صور وواحدة في جزين».

يتابع الترك الحديث عن الواقع التعليمي فيقول إن من يتوافر له التعليم في المدارس الحكومية والإرساليات هو 32851 طالباً، ويبقى أكثر من خمسة وثلاثين ألف طفل من دون علم. أما الطرق، فهي معدومة، فهناك خمس وثمانون قرية لا طريق لها، وقسم كبير من القرى طرقها ترابية. أما الطرق المعبدة، فهناك طريق صيدا - صور الملتوية، والضيقة والزفت شبه منعدم عليها. ومن بين 452 بلدة وقرية هناك سبع فقط تعرف الكهرباء، هي صيدا وصور اللتان يصل التيار الكهربائي إليهما من بيروت، أما النبطية، مرجعيون، جزين، روم، حاصبيا، فتنتج الكهرباء من مولدات خاصة تعمل بعض الوقت في الليل. في حين أن بنت جبيل التي يسكنها عشرة آلاف مواطن، تستنير بقنديل الكاز، ومثلها تبنين وعين إبل وقرى أخرى تستعمل قنديل الزيت.

الهاتف كان مدار تسلط القوى الإقطاعية، فهي التي توافق أو ترفض مد شبكة هاتف إلى قرية ما. بعض القرى تم إنشاء مراكز عامة للهاتف فيها، في حين أن 347 قرية تنعدم فيها خطوط الهاتف. ويستفيض الترك في شرح الواقع الزراعي المتردي ويقدم أمثلة على ذلك، ويخلص إلى أن الواقع المأساوي على كل الأصعدة دفع الكثير من الجنوبيين إلى الهجرة لضواحي المدن أو الخارج. كان كل ذلك في عهد فؤاد شهاب (عفواً الأمير) الذي يوصف بأنه باني دولة المؤسسات.

ذلك الواقع أضيفت إليه اعتداءات صهيونية متواصلة. والسلطة في بيروت تجاهلت سابقاً كما اليوم معاناة الجنوبيين. مياه الجنوب مثلاً غزيرة جداً، تكفي لري الجنوب ومساحات كبرى في لبنان، ولكن يمنع الصهاينة منعاً باتاً استعمال المياه. محاولة وحيدة يتيمة جرت في عهد الرئيس لحود حيث أقيمت منشآت ومضخات على نهر الوزاني ومدت شبكة من القساطل من النهر حتى بلدة الطيبة بهدف إرواء نحو عشرين قرية جنوبية.

فور البدء بالمشروع هدد الصهاينة بتدمير المنشآت، ولكن لبنان أصر على التنفيذ ودشن المشروع من قبل الرئيس لحود في السادس عشر من تشرين الأول 2002 رغم التهديدات الإسرائيلية بتدمير ما شيد. لكن في الحرب الأخيرة قصف الطيران الصهيوني تلك المنشآت. وكما أيقن القادة الصهاينة الأوائل أهمية مياه الشمال لتطوير المشروع الاستيطاني، لا يزال مشروع السيطرة على المياه في صلب إستراتيجية إسرائيل حتى اليوم. وهذا ما يتأكد يوماً بعد يوم، خاصة مع إصرار الصهاينة على الوصول إلى مجرى نهر الليطاني. وقد قفز موضوع السيطرة على مصادر المياه قفزة نوعية باحتلال الصهاينة لجبل الشيخ والجولان ومناطق شاسعة من جنوب سوريا حيث أكثرية مصادر المياه.

هذا هو «الزمن الجميل» الذي يستبيح فيه العدو سماء لبنان وأرضه وبحره. وللتذكير فقط، في الوقت الذي كانت تجري فيه عملية تشكيل سلطة لبنانية جديدة، كانت الطائرات الصهيونية تحلق بسهولة في سماء لبنان لتذكّر نواب البلاد بأن الصهاينة موجودون فوق رؤوسهم.

اليوم يقصف العدو أي مكان يختاره في لبنان، حرية الحركة له أصبحت واقعاً. من ينتظر وعود لجنة المراقبة لوقف إطلاق النار وتوسلها كي ينسحب العدو، ما عليه إلا الانتظار طويلاً. للصهاينة شروطهم، والضعيف الذي ينفذ إرادة الغرب الذي يرفض تسليح الجيش، لا ينفعه رمي الكرة في ملعب من قاتل المجرمين النازيين الصهاينة. عندما تكون الأرض محتلة والبلد كله مهدداً، ويجري على مرأى الجميع تدمير كل مقومات الحياة في جنوبه، لا تنفع الثرثرة عن السيادة، وبناء الدولة والإصلاح. الدولة التي عجزت طوال مئة عام ونيف من قيامها عن حماية سيادتها، ستعجز حتماً عن القيام بذلك اليوم وغداً وبعد غد، بسبب تكوينها الطائفي المقيت.

ويلخص هذا الوضع بيت شعر للمتنبي:
«من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام».
*كاتب لبناني

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي