أوروبا أمام مفترق تاريخي: بحثاً عن مظلّة حماية جديدة

ألقى الإذلال الذي تلقّاه زيلنسكي من قبل ترامب، بظلال ثقيلة على أجواء أحدث قمّة لزعماء الدول الـ27 (أ ف ب)
ألقى الإذلال الذي تلقّاه زيلنسكي من قبل ترامب، بظلال ثقيلة على أجواء أحدث قمّة لزعماء الدول الـ27 (أ ف ب)

لندن | قد تصبح الصفعة العلنية التي تلقّاها الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلنسكي، الأسبوع الماضي، من مضيفه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بمنزلة لحظة رمزية لإطلاق تحوّل تاريخي نوعي في ماهية الاتحاد الأوروبي، من «تجمّع للتعاون والبناء وتعزيز السلام» في القارة بعد كارثة الحرب العالمية الثانية، إلى منظمة تدير مصالح الإمبرياليات المتقاعدة في عالم لا مكان فيه لغير الأقوياء. وألقى الإذلال الذي تلقّاه زيلنسكي، وإعلان الرئيس الأميركي عن وقف فوري لكلّ أشكال المساعدات العسكرية والاستخبارية لأوكرانيا، بظلال ثقيلة على أجواء أحدث قمّة لزعماء الدول الـ27، الذين التقوا في بروكسل، أمس، بحضور زيلنسكي لمناقشة بدائل قصيرة المدى لإنقاذ الموقف في شأن الدفاع عن أوكرانيا؛ وأخرى طويلة المدى لبناء دفاع أوروبي ذاتي في مواجهة النهج الأميركي الجديد في العلاقة مع القارة.

وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، التي تستضيف القمّة الطارئة: «نحن نعيش لحظة تحوّل تاريخي في أكثر الأوقات خطورة». وأتت هذه القمّة بعد سلسلة من القمم الطارئة، خلال الأسبوعَين الماضيَين، جمعت عدداً من زعماء الدول الأوروبية المؤثرة، إضافة إلى رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، فيما بذلت باريس ولندن جهوداً لوضع خطّة لوقف القتال في أوكرانيا، تتضمّن إرسال قوات أوروبية من تحالف للراغبين في توفير ضمانة أمنية لنظام زيلنسكي، حال التوصّل إلى تسوية. لكن الأمور اتّجهت إلى مزيد من التعقيد، بعدما ردّ ترامب بإصدار أوامر بوقف دعم بلاده العسكري والاستخباري للجيش الأوكراني، ما يهدّد بانهيار الجبهة وسقوط مزيد من الأراضي في أيدي القوات الروسية.

لكن الأوروبيين الذين دائماً ما اعتمدوا لحمايتهم على المظلّة الأمنية الأميركية - عبر شبكة واسعة من القواعد العسكرية الممتدّة عبر القارة من رومانيا إلى بريطانيا -، يفتقرون بشكل بنيوي إلى القدرة على إدارة معركة ضدّ روسيا على الأراضي الأوكرانية، من دون الاستناد إلى منظومات الدفاع الأميركية. ولذلك، إن مبادراتهم لـ«وقف القتال» قد لا تحظى بأدنى التفاتة من جانب موسكو، خصوصاً أن عرضهم إرسال قوات لحماية ظهر نظام كييف لن يكون واقعياً إطلاقاً، إذا لم يمنح الأميركيون تلك القوات مظلّة حماية تردع الجيش الروسي عن إبادتها بأسلحة متطوّرة.

يفتقر الأوروبيون بشكل بنيوي إلى القدرة على إدارة معركة ضدّ روسيا على الأراضي الأوكرانية


وتركّزت المناقشات في مداولات بروكسل، أمس، حول مقترحات لتوفير صيغ تمويلية تسمح بمضاعفة إنفاق دول الاتحاد على العسكرة، ومنها تأسيس بنك للدفاع أو صندوق مشترك لتمكين الجيوش الأوروبية من رفع كفاءتها بعد عقود من الإهمال، وإعادة التأسيس لقاعدة صناعات دفاعية متقدّمة. ويبدو أن المفوضية الأوروبية (التي تقوم بدور حكومة الاتحاد الأوروبي) تريد أن تكون بريطانيا جزءاً من أيّ ترتيب يتم التوافق عليه في هذا الخصوص، رغم أن لندن اختارت ترك عضوية الاتحاد قبل خمس سنوات.

ومن جهتها، قدّمت فون دير لايين للقمّة تفاصيل خطّتها لِما سمّته «إعادة تسليح أوروبا»، وتتضمّن إنشاء برنامج قرض بقيمة 150 مليار دولار لدعم استثمار الدول الأعضاء في شراء معدات القتل، مع تحرير قواعد موازنة دول الاتحاد لتمكينها من زيادة إنفاقها العسكري من دون خرق سقوف العجز المالي الصارمة خلال السنوات الأربع المقبلة. ويقدّر خبراء بأن تلك المرونة قد تسمح بزيادة الإنفاق الدفاعي للقارّة، بما يصل إلى 800 مليار يورو سنوياً، مقارنة بـ324 ملياراً العام الماضي.

ورغم أن النخب الأوروبية الحاكمة، أقله في العواصم الرئيسية برلين (في عهد المستشار الألماني الجديد رهن التعميد) وباريس وروما ووارسو (كما لندن)، تميل إلى تسريع عملية عسكرة أوروبا، إلّا أن ثمّة مصاعب جدّية تتعلّق بآلية اتّخاذ القرارات في الاتحاد، والمعتمدة على الإجماع، ما يسمح لدول أصغر تتحفّظ على تعظيم الإنفاق على الأسلحة في ظلّ ظروف اقتصادية صعبة تعيشها شعوب القارة، بتعطيل التوافقات، فضلاً عن تباين مواقف بعض العواصم في شأن مبدأ دعم نظام كييف. وفي مواجهة صقور برلين وباريس (ولندن)، فإن روما (ثالث أكبر اقتصادات أوروبا) ووارسو (صاحبة أكبر جيش أوروبي لناحية التعداد البشري)، وإنْ كانتا تدعمان زيادة الإنفاق الدفاعي، لا تريدان بأيّ شكل أن تظهر الجهود الأوروبية في ذلك الاتجاه كما لو أنها تحدٍّ للحليف الأميركي.

وكان لافتاً، في هذا الإطار، تصريح رئيس وزراء لوكسمبورج، لوك فريدن، على هامش القمّة، حين قال: «نحن بحاجة إلى مزيد من الدفاع الأوروبي، وإذا كانت دولة أو دولتان لا تريدان مشاركتنا هذا الرأي، أرى أن على الدول الأخرى المضيّ قدماً من دونهما»، في ما يرى الخبراء أنه ينذر بتحول بروكسل إلى «طاغية» يصدر الأوامر باسم الأكثرية.

وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، خالف رئيس الوزراء المجرّي، فكتور أوربان، توجهات باريس ولندن، داعياً إلى أن تشارك أوكرانيا في محادثات السلام التي تقودها الولايات المتحدة مع روسيا في أقرب فرصة. وكتب إلى رئيس المجلس الأوروبي، أنطونيو كوستا، قائلاً: «هناك اختلافات إستراتيجية في نهجنا تجاه أوكرانيا لا يمكن تجاوزها». كما شنّ رئيس الوزراء السلوفاكي، روبرت فيكو، هجوماً صريحاً على زيلنسكي، متهماً إيّاه بالحرص على مواصلة الحرب، لأنه «مفتقد لأيّ تفويض، ويعلم جيّداً أنه لن يعاد انتخابه كرئيس»، مؤكداً أن بلاده لن ترسل دعماً ماليًّا إلى نظام كييف «لأن نصف الأموال على الأقل سيسرق».

كما رفض فيكو المشاركة في اجتماع دعا إليه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الأسبوع المقبل، لمناقشة إمكانية مدّ مظلّة الحماية النووية الفرنسية إلى كل أوروبا؛ إذ قال إن بلاده «لا تريد أن تكون طرفاً في أيّ محادثات في شأن توسيع الردع النووي الفرنسي».

ويقول خبراء إن الأوروبيين، حتى ولو تمكّنوا من التوحُّد وراء قرارات لتعظيم الإنفاق العسكري، فإنهم سيحتاجون إلى خمس سنوات على الأقل لبناء بدائل لبعض الخدمات العسكرية الأساسية التي توفّرها الولايات المتحدة حالياً، من مثل عمليات القيادة والتحكم الكلّي في ساحة المعركة، والأقمار الاصنطاعية العسكرية لجمع المعلومات الاستخبارية، والقدرة على توجيه ضربات صاروخية بعيدة المدى، فضلاً عن الأسلحة الأحدث المعتمدة على الدرونات والذكاء الاصطناعي، وهو ما قد يجبرهم على الانحناء أمام مطالبات الولايات المتحدة لدول أوروبا الأعضاء في «حلف شمال الأطلسي» بمضاعفة الإنفاق العسكري السنوي لكل منها من المستوى المستهدف حالياً - 2.5% من الناتج القومي - إلى 5% تطمح واشنطن أن تذهب أساساً لشراء معدّات قتل من صناعات السلاح الأميركي، بحجة الحاجة إلى تناغم منظومات الدفاع عبر دول الحلف.

وعُلم في بروكسل أن كبار مسؤولي المفوضية الأوروبية وضعوا عدداً من الدول غير الأعضاء في التكتل - بما في ذلك بريطانيا والنرويج وتركيا - في أجواء القمّة فور انفضاضها.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي