نازك سابا يارد: القلب المسكون بفلسطين

نازك سابا يارد: القلب المسكون بفلسطين


هو جيل لبناني كاملٌ من اليافعين صقلت ذائقتَه الأدبية كتاباتُ الأديبة المقدسية الراحلة نازك سابا يارد (1928ـــ2025) التي أخذت بيده في أقاصيصها لتحبّبه بلغته الأم وتعرّفه بوطنه المعروف ــ المجهول. هكذا اكتشف الناشئة جبيل وتاريخها «في ظل القلعة» (2009)، وعرّج على دير القمر وصيدا في «بعيداً عن ظلّ القلعة» (1999)، واستكشف معالم العاصمة الأثرية في «أيام بيروت» (2009). لكن ما يجهله كثيرون أنّ خلف الكلمات الرقيقة للكاتبة المتعددة المواهب، تكمن تغريبة كاملة مختلطة بالمرارة والخسارات الفادحة والحنين الممغنط نحو وجهة واحدة بعيدة قريبة: فلسطين!

ولدت نازك سابا يارد في عام 1928 في حي «البقعة الفوقا» المقدسي لأم لبنانية هي حلا معروف، وأب فلسطيني يعمل محاسباً هو إسكندر سابا لقّن أولاده التفاني في سبيل القضية العربية، رافضاً إلحاق ابنته بمدارس الانتداب البريطاني. وحين أغلقت سلطات الانتداب المدرسة الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية، اختارت الفتاة أن تتلقى دروساً منزلية في اللغة الإنكليزية ليتسنّى لها الانتساب إلى القسم الإنكليزي في «مدرسة راهبات مار يوسف الظهور»، وتتابع من بعدها دراسة الفلسفة في القاهرة في «جامعة فؤاد الأول» بعد سقوط فلسطين بيد العصابات الصهيونية.

بعد النكبة، بدا أن الفتاة الرقيقة التي أغرمت بالأوبرا في القاهرة، ستحمل صليب التغريبة الفلسطينية وتسير في درب الجلجلة الطويل: من اعتقال أبيها على يد سلطات الاحتلال ثم وفاته ودفنه في مكان مجهول، مروراً بكفاحها الطويل في سبيل إخراج أختها من أحد مخيمات اللاجئين، مستعينةً بصديقها إبراهيم يارد الذي يدرس هو الآخَر في القاهرة وسيصبح زوجها في ما بعد، وليس انتهاء بالرحيل النهائي عن «أرض البرتقال الحزين» وتشتت أسرتها وأبنائها في المنافي.

انتقلت يارد إلى بيروت عام 1949، لتمارس حياتها ككاتبة ومدرّسة، مستفيدةً من مناخ الانفتاح الثقافي والفكري الذي كانت بيروت توفّره في النصف الثاني من القرن الماضي، حيث تفتّحت موهبتها على النقد الأدبي، ولا سيما الشعري. وضعت دراسات مرجعيّة عن جبران وأحمد شوقي وابن الرومي والياس أبو شبكة والشاعر العباسي حمّاد عجرد، إضافة إلى تناولها بالنقد ثلاثة شعراء عباسيين لم يحظوا باهتمام الدارسين هم: أبان بن عبد الحميد اللاحقي (الذي نظم كتاب «كليلة ودمنة» شعراً)، ووالبة بن الحباب (أستاذ أبي نواس)، وكلثوم بن عمرو العتابي في كتابها المرجعي «في فلك أبي نواس» (نوفل ــــ 1992).

الباحثة النشيطة التي ناقشت في «الجامعة الأميركية في بيروت» عام 1976 أطروحتها للدكتوراه «الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة» التي اعتُمدَت مرجعاً في جامعة «السوربون» في فرنسا، ظلَّ طيف فلسطين يلاحقها إبان الحرب الأهلية اللبنانية، إذ ينقل تحقيق عن سيرتها («الأخبار» 1/12/ 2016) أنّ «جيش» الاحتلال قد اقتحم منزلها في جوار مخيم صبرا وشاتيلا إبّان المجزرة الدامية عام 1982، وكانت أن تلقّت صفعةً من أحد الجنود أثناء المداهمة.

جروح الذاكرة والمرارة تلك سنعثر عليها في النتاج الروائي لصاحبة «كان الأمس غداً» (1983)، ضمن ريبيرتوار غني منذ روايتها الأولى «كان الأمس غداً» (1983) مروراً بـ «تقاسيم على وتر ضائع»، و«فقدان» وغيرها وصولاً إلى روايتها الأخيرة «عبء الزمن» (نوفل ــــ 2019)، لتحصل على أكثر من وسام وجائزة تكريماً لمسيرتها الأدبية مثل وسام السعفات الأكاديمية الفرنسي من رتبة فارس (1979)، و«جائزة الأمير كلاوس» (1998) التي تمنحها الحكومة الهولندية تكريماً للأفراد والمنظمات الذين يسهمون في الثقافة والتطوير المجتمعي بشكل تقدمي ومعاصر.

ظلت نازك سابا يارد صادقة في ما تكتب حتى الرمق الأخير. كأن تلك الكلمات في سيرتها الذاتية «ذكريات لم تكتمل» خلاصة تلك التجربة الممتدة من طرف الخيط اللاقط لها في القدس العتيقة حتى نهايتها البيروتية. أرادت أن تكون للمنفيين في الأرض حكاية تستحق أن تروى: «ما شجعني على تدوين سيرتي أن أولادي وأحفادي المنتشرين في بلاد الدنيا لا يعرفون شيئاً عن ماضيّ، أي عن جزء من ماضيهم هم. ومن لا يعرف ماضيه لا يعرف نفسه حقّاً».

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي