محمد طرزي: تاريخ جبل عامل مُهمل أدبياً

محمد طرزي: أشعر بزهو كبير أمام الصمود الأسطوري الذي أبداه المقاتلون الشجعان، خصوصاً في القرى الأمامية
محمد طرزي: أشعر بزهو كبير أمام الصمود الأسطوري الذي أبداه المقاتلون الشجعان، خصوصاً في القرى الأمامية

روائي يكتب من «خارج الصندوق»: أكثر ما ينطبق هذا الوصف على محمد طرزي (1983)، الشاب القادم إلى الرواية من عالم الاقتصاد والأعمال يشقّ طريقه بثقة حاجزاً لنفسه مكاناً أصيلاً على الخارطة الروائية اليوم ولا سيما بعد تتويج روايته «ميكروفون كاتم صوت» (الدار العربية للعلوم ناشرون) بجائزتي «كتارا» و«نجيب محفوظ» في عام 2024. ولعل فرادة هذا الروائي اللبناني ومقاربته المختلفة تكمنان في قدرته على الغوص في مساحات مُهملة أو غير مطروقة بشكل احترافي من قَبل في الرواية العربية، كالإرث العربي والإسلامي في منطقة شرق إفريقيا لا سيما في موزمبيق وزنجبار وغيرهما في وقت يقارب فيه الروائيون الأجانب والأفارقة مثل قرنح ومغوبار-سار واقع القارة السمراء وفقاً لثنائية العالم الأول والعالم الثالث ومراكب المهاجرين والهجرة غير الشرعية فحسب. تبدو رواية طرزي مزركشة مثل مراكب زنجبار والجزر البعيدة التي تمتزج فيها الأغاني والهويات والمصاحف والتوابل لتذكرنا بأنّ لنا تاريخاً إنسانياً في ذلك الركن القصيّ من الأرض يحتاج إلى حفر في الذاكرة وقدرة على استخراج السرد كما يستخرج اللؤلؤ من المحارة. كما أنّ صاحب «رسالة النور» قادرٌ أيضاً على الغوص في التراث المشرقي عبر استحضار نموذج السلطة ومقابلة النظرة إليها في قالب روائي بين شخصيتين إشكاليتين في التراث كعبد الحميد الكاتب وعبد الله بن المقفع، ناهيك ببراعة ابن مدينة صور العاملية في تصوير مآسي البلد الصغير بالحرائق الكبيرة وتشريح تناقضات هذا الواقع على موشور الربيع العربي والأزمات الاقتصادية والمعيشية الخانقة. حول مشروعه الروائي ككل وقضايا راهنة في الكتابة والجوائز وتبعات الحرب الأخيرة على الإبداع ككل، كان هذا الحوار مع طرزي المشغول اليوم بكتابة رواية عن جنوب السودان وقلبه في الجهة الأخرى من الأرض: جنوب لبنان الذي لا بد من كتابته رواية وتاريخاً وشعراً وحكايات، لأن «الحكايات التي لا نكتبها تصبح ملكاً لأعدائنا».

من هو محمد طرزي، هل لنا بسيرة روائية صغيرة «بحجم راحة اليد»؟
ـــــ روائي لبناني عربي، درستُ الاقتصاد والقانون في الجامعة اللبنانية وفي لندن. وجدت الروايةُ طريقها إليّ منذ الصغر، رغم أنني نشأت في عائلة لا تهتم بالأدب. الآن حين أنظر إلى الوراء، أتساءل عما أشعل ذاك الشغف في داخلي، فلا أجد جواباً. هكذا دخلت عالم الكتابة من دون مرشد، تعثّرت في البديهيات، لأنني لم أدرس الأدب، وعلاقتي بقواعد اللغة اقتصرت لوقت طويل على ما تعلّمته في نطاق المدرسة. أتقنت قواعد اللغة خلال الكتابة، وكان لي من الفائدة ما جنيته من ملاحظات المدقّقين لدى دور النشر وآراء القراء. في موزمبيق، كتبتُ روايتي الأولى عندما كنتُ في السادسة والعشرين. عبر إقامتي في تلك الدولة، تعرفتُ إلى الإرث العربي في شمال البلاد، وعلى طول الساحل الشرقي لإفريقيا. أدركتُ قيمة ذلك الاكتشاف، لأنني نفسي كنتُ أجهله، فقدّرتُ أنّ كثيرين يجهلونه أيضاً. قرأت في تلك المدة رواية سطحية لويلبر سميث، تقارب وجهاً من تاريخ شرق إفريقيا عبر عائلة أوروبية، ففكرتُ في كتابة رواية عن تلك المنطقة من منظور عربي. كتبتُ «جزر القرنفل» عن عرب زنجبار في القرن التاسع عشر، في ظلّ حكم السلطان سعيد بن سلطان، أضفتُ لها عنواناً فرعياً «حكاية الحلم الإفريقي»، لتكون جزءاً من سلسلة روايات عن أفريقيا، إن وجدت الرواية طريقها إلى القراء. فازت الروايةُ بـ «جائزة غسان كنفاني» التي تمنحها «مؤسسة فلسطين الدولية» في الأردن، كما أُدرجت ضمن قائمة «جائزة الشيخ زايد للكتاب للمؤلف الشاب». كذلك، وصلني عدد من الرسائل اللطيفة من القراء، فشعرتُ بأنّ هناك فرصة لاحتراف الكتابة. كانت تلك رواياتي الثانية، واليوم أنا في صدد كتابة الرواية العاشرة.

تتنوّع مروحة مشروعك الروائي بين التراث العربي في شرق إفريقيا، والتراث العربي الإسلامي، والواقع اللبناني. هل يمكنك أن ترسم لنا بانوراما لهذا المشروع؟
ـــــ إقامتي في شرق إفريقيا هي الدافع الأساسي للكتابة عن تلك المنطقة. وقتها، كنت أطالع عدداً من الروايات عن تاريخ العرب في أوروبا وآسيا، ولم أصادف نصوصاً أدبية عن شرق إفريقيا. أغوتني فكرة الريادة في هذا المجال، خصوصاً أنّ الوجود العربي هناك، سواء الشعبي عبر الهجرة والاستيطان، أو الرسمي عبر تنصيب شيوخ وسلاطين عرب، امتد على قرون. آخر مظاهره الرسمية انتهت في زنجبار عام 1964، بينما لا تزال قائمة نوعاً ما في جزر القَمر، التي تناولتها في رواية «عروس القمر» كجزء من حكايات الحلم الإفريقي.


عبر «رسالة النور»، انتقلتُ لاحقاً إلى التراث العربي الإسلامي، تحديداً خلال الربيع العربي، مدفوعاً بصلة وجدتها بين الثورات المعاصرة وثورة العباسيين ضد الحكم الأموي. إذ مثّل ابن المقفع وعبد الحميد الكاتب نموذجين متباينين في النظر إلى السلطة والثورة، فشكلت آراؤهما المتناقضة حول جدوى الثورة وإمكان التغيير عبر الفكر مادةً أساسيةً للرواية. عبد الحميد الكاتب، بوصفه واحداً من أعمدة الدولة الأموية، قدّم رؤية تُعلي من شأن الاستقرار ولو على حساب الإصلاح، بينما ابن المقفع، الناقد الجريء، مثّل نموذجاً فكرياً يسائل السلطة ويطرح أسئلة حول العدالة والمساواة. كما أقمتُ رابطاً بين ابن المقفع ورسائل إخوان الصفاء، مستنداً إلى مرجع يشير إلى احتمال مشاركته في صياغة تلك الرسائل. رغم ضعف هذا الرأي تاريخياً، وجدت فيه إلهاماً أدبياً يعزز من رمزية ابن المقفع ودوره في انتقاد السلطة. أما الواقع اللبناني، ففرض نفسه عليّ مع أحداث 17 تشرين وما تبعها من أزمات معروفة، جديرة بالتوثيق الأدبي، فولدت روايتي «ميكروفون كاتم صوت».

دعنا نفصّل أكثر في رواية «ميكروفون كاتم صوت» التي تصوّر الواقع اللبناني الذي تصفه بالمقبرة لموت السياسة والثقافة فيه، وهي الرواية التي توجت بجائزتي «كتارا» و«نجيب محفوظ». كيف تقدم هذه الرواية للقارئ؟
ــــ هي رواية عن الانهيار الشامل الذي يمرّ به لبنان، لا سيما بعد 2019، وما حملته تلك الأعوام من انهيار اقتصادي، وسرقة الودائع المصرفية، وتفشّي كورونا، وانتشار النفايات في الشوارع، وانقطاع الأدوية، وظهور الطوابير أمام الأفران ومحطات البنزين، فضلاً عن انفجار مرفأ بيروت. الرواية بمنزلة وثيقة تاريخية أو صرخة مكتومة، كما يشير عنوانها، في وجه الطغمة الحاكمة. اختيرت المقبرة فضاء سرديّاً أساسيّاً، كتعبير رمزيّ عن الحضيض الذي غدا واقعاً. في المقابل، هناك البحر، حيث الحياة الزائفة المتمثّلة في الهجرة غير الشرعية، والغرق الذي يهدّد المهاجرين، كأنما البحر مقبرةٌ أخرى، كأنما بطل الرواية، الشابّ «سلطان»، الذي ولد في بيت مطلّ على المقبرة، والراغب في الهجرة، محاصر، في نهاية المطاف، بين مقبرتين.
تقارب الرواية الواقعَ اللبناني، بل تعيد اكتشافه عبر شخصيات واقعية، بقدر ما هي روائية وأدبية. هي رواية التضادّ والمفارقات الداخلية؛ بدءاً من العنوان حيث الميكروفون الكاتم للصوت، مروراً بالفضاء المكاني حيث المقبرة والبحر. يتجلّى التضادّ أيضاً في شخوص الرواية؛ فالمومسُ رسامةٌ، ودليلُ المقابر كاتبٌ، والآثمُ ضميرُ الرواية. أما الشابة النبيلة التي تمثّل صوت الحبّ، فلا تلبث أن تنخرط مع صديقها «سلطان» في علاقة مشوّهة، تفرض إيقاعَها المدينةُ المشوّهةُ بالنعي والمكبّرات.

عبر «رسالة النور»، انتقلتُ إلى التراث العربي الإسلامي، تحديداً خلال الربيع العربي، مدفوعاً بصلة وجدتها بين الثورات المعاصرة وثورة العباسيين ضد الحكم الأموي

يقول كونديرا إن الرواية أصعب الفنون إطلاقاً. هل تتفق معه في ذلك؟ وما هي أبرز الصعوبات التي واجهتك؟ مع دور النشر مثلاً؟
ــــ لا أستطيع أن أجزم في هذا الأمر، لأنني لست على دراية كافية بسائر الفنون. مع ذلك، أميل إلى اعتبار الشعر أكثر صعوبةً من الرواية. أن يتمكّن الشاعر من التعبير بعدد قليل من الأبيات، ينقل عبرها مشاعره وأفكاره بعمق إلى الآخرين، لهو تحدٍّ يفوق في تعقيده كتابة رواية من ثلاثين ألف كلمة مثلاً. لم أجد ناشراً بسهولة، ولديَّ في ملفات الكمبيوتر بضع روايات من بداياتي غير منشورة، لكنني لا أعدّ ذلك من الصعوبات التي واجهتها، بل أشعر بالامتنان لرفض الناشر تبنيها، لأنني حين أرجع اليوم إليها، أحس برضى لأنها لم تجد طريقها إلى النشر. أعتقد أن تراجع دور الناشر كمصفاة للنصوص قبل وصولها إلى القرّاء تسبّب في انفلات النشر في ظل تراجع ملحوظ للجودة الأدبية.

حدثنا عن مكتبتك الشخصية. هل على الروائي أن يقرأ كتباً من «خارج الصندوق»، مثل كتب عن الطبخ أو الذكاء الاصطناعي؟
ــــ درستُ القانون والاقتصاد، وظللت لمدة طويلة مهتماً بالمطالعات الاقتصادية، إلى جانب الكتب التاريخية، نظراً إلى اهتمامي برواية التخيّل التاريخي. لا أعلم إن كان ذلك يُعد «خروجاً من الصندوق»، لكن في كل الأحوال، أعتقد أن الكُتّاب الذين يقرأون الكتب نفسها ينتهي بهم الأمر إلى كتابة روايات متشابهة. من الضروري توسيع نطاق القراءات بشكل كبير، خصوصاً إذا لم تتح للكاتب فرصة السفر والعيش في حضارات وثقافات مختلفة، ليختبر ثقافته عبر التفاعل المباشر مع تلك المجموعات.

هل تجعل الجائزة من الروائي نجماً؟ أم هي تتويج منطقي لإبداعه؟ وهل تظلم الجوائز بعض الروايات باستبعادها أو حتى تفضيل بعضها الآخر عليها؟
ــــ تُعدّ الجوائز الأدبية أحياناً بوابةً لتحويل الروائي إلى نجم، وهي في جوهرها تتويج لإبداعه ومثابرته. مع ذلك، لا يمكن إنكار أنّها قد تظلم بعض الروايات، سواء باستبعادها أو بتفضيل أعمال أخرى عليها. الجدل بين الكُتّاب حول الجوائز مردّه غالباً شعور طبيعي بأن كل كاتب يرى نصه جديراً بالفوز. وهذا مفهوم، لأن الكتابة عملية معقّدة تستهلك الكثير من طاقة الكاتب، ما يولّد إحساساً لديه بأن ما أنجزه استثنائي. مع ذلك، فإن تقييم الأعمال الأدبية يعتمد في النهاية على ذائقة لجان التحكيم، وهو أمر يظل خاضعاً للجدل والاختلاف، ما يجعل الحديث عن أحقية رواية دون أخرى مسألة معقدة ومفتوحة للنقاش.

لماذا يبدو القارئ العربي كسولًا في اكتشاف المواهب الروائية الشابة، وحتى في الشعر يقف عند أسماء من جيل معين وكأن الزمن قد تجمد عندها؟
ــــ لا أعتقد أن اكتشاف المواهب الشعرية أو الروائية الشابة يقع على عاتق القارئ، بل هو دور النقاد والصحافيين والكتّاب المتمرسين، الذين ينبغي أن يعتبروا دعم الأدب الجيد واستمراريته جزءاً من رسالتهم. كذلك، يتحمّل الإعلاميون الذين يديرون البرامج الثقافية مسؤولية تسليط الضوء على الأصوات الجديدة، لكنّ معظم هؤلاء يكتفون بمتابعة قوائم الجوائز الأدبية لانتقاء ما يقرأونه أو يعرضونه، بدلاً من خوض غمار البحث عن الأعمال التي لم تحظَ بعد بالاهتمام رغم تميّزها. في المقابل، يتوجّه القارئ العادي، المُثقل بانشغالاته اليومية، إلى القراءة كوسيلة للهروب من ضغوط الحياة، ولذلك يميل إلى الكتب التي حظيت بتوصيات موثوقة، متجنباً المجازفة باقتناء أعمال قد لا ترقى إلى تطلعاته.

هل تسعى إلى ترجمة رواياتك (أو هل سبق وترجمت)، وماذا تضيف الترجمة إلى الإبداع؟
ـــ تُرجمت «رسالة النور» إلى اللغة الكردية، وتُترجم «ميكروفون كاتم صوت» حالياً إلى الإنكليزية، والفارسية، والتركية. أؤمن بأن الترجمة إلى الإنكليزية يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة أمام العمل، ما قد يمهد الطريق لترجمته إلى لغات أخرى. لا تحقّق كل الروايات نجاحاً عند ترجمتها. الأعمال التي تعتمد على جمالية اللغة وحدها تفقد جزءاً كبيراً من سحرها عند الانتقال إلى لغة أخرى. لكن في المقابل، هناك روايات لم تزدهر عربيّاً على نطاق واسع إلا بعد الترجمة، مثل «سيدات القمر» و«موسم الهجرة إلى الشمال».

أعطني عملاً روائياً عربياً يعجبك وآخر عالمياً، وما هي مبررات هذا الإعجاب؟
ــــ من الأعمال العالمية التي أُعجبتُ بها رواية «كل الضوء الذي لا نستطيع رؤيته» لأنطوني دوير. ما يميز هذه الرواية هو الحبكة المحكمة التي تمزج بين مصائر شخصيات تنتمي إلى عالمين متحاربين، الألماني والفرنسي، حيث يربط بينهما صوت الراديو وسط صخب الحرب العالمية الثانية. ورغم القسوة التي نشأت عليها شخصيات الرواية، نجد أن هناك خيوطاً إنسانية تجمع في ما بينها. ما يجعل العمل عميقاً ومؤثراً. كذلك يبرز أسلوب دوير في السرد عبر الوصف الدقيق والمتقن للمشاهد، إذ يتماهى القارئ مع الأحداث كأنه يعيشها. أما على الصعيد العربي، فأجد أنّ رواية «واحة الغروب» لبهاء طاهر تستحق الإشادة. تأخذ الرواية القارئ إلى عمق المجتمع المصري في نهايات القرن التاسع عشر، مستعرضةً التوترات الاجتماعية والثقافية بين الشرق والغرب، وبين الحاضر والماضي. يثير انتباهك الجمع بين السرد التاريخي والاستبطان النفسي للشخصيات، والبراعة في نسج العلاقات المعقدة بينها وبين المكان، في إطار فني يكشف صراع الهوية والانتماء.

هل ترحّب بالنصائح الأبوية التي تقّدم من كتاب محترفين مثل «رسالة إلى روائي شاب»؟
ــــ أعتقد أن النصائح التي تصلح لجيل قد لا تصلح لجيل آخر. لكل زمن ذائقته الخاصة، والكاتب المجتهد هو الذي ينجح في التقاط هذه الذائقة عبر التفاعل مع قضايا عصره، والاطلاع على الكتب والأفكار التي تحظى باهتمام الجيل الذي ينتمي إليه.

«ميكروفون كاتم صوت» رواية عن الانهيار الشامل الذي يمرّ به لبنان، لا سيما بعد 2019، والانهيار الاقتصادي، وسرقة الودائع المصرفية، فضلاً عن انفجار مرفأ بيروت

هل تضع مخططاً للرواية قبل كتابتها؟ أم أن الكتابة تصنع الطريق؟
ــــ أضع مخططاً للرواية قبل الشروع في كتابتها، وأرسم الشخصيات في مخيلتي بدقة، متعايشاً معها ومع تفاصيل حياتها وعاداتها لمدة طويلة، قبل أن أنقلها إلى الورق. في الواقع، عندما أقول إن كتابة الرواية تستغرق مني عامين، فإن نصف هذه المدة يمضي بعيداً عن الكتابة المباشرة، إذ أخصصه للتفكير والبحث والبناء الذهني للعالم الروائي. مع ذلك، غالباً ما تتسم الشخصيات بنوع من الاستقلالية، فتخرج عن المسار الذي خططته لها مسبقاً، وتختار أقداراً مختلفة عما كنت قد قررته. هذا التمرد هو الذي يجعل الكتابة مغامرةً حية وغير متوقعة، حيث تصبح الشخصيات أكثر حياة وواقعية، تتحرك بعيدًا عن تحكمي الكامل فيها.

ما رأيك في تمازج الأصناف الأدبية اليوم؟ كأن تطعّم الرواية بمقاطع شعرية، أو أن يحتوي الشعر فقرات من السرد؟
يمكن أن يضيف تمازج الأصناف الأدبية، مثل تطعيم الرواية بمقاطع شعرية أو إدراج الشعر بفقرات سردية ثراءً فنياً وعمقاً جمالياً إذا ما أُنجز بحرفية ودقة. رغم أنني لم أقرأ عملاً يمزج بين الشعر والرواية تماماً كما وصفت، فقد أثارت إعجابي أخيراً رواية «سنوات الجري في المكان» للروائية المصرية الشابة نورا ناجي، التي تضمنت فصلاً مسرحياً كاملاً. وجدت ذلك مبتكراً. إذ أضافت بعداً جديداً للتجربة السردية، وأظهرت قدرتها على التنقل بين الأشكال الأدبية بطريقة طبيعية ومنسجمة مع روح النص.

هل ما زالت ثمة رقابة على مواضيع محرمة في الرواية العربية؟ ثالوث السلطة والدين والجنس مثلاً؟ أم أنّ عصر العولمة أسقط الكثير من سلطة الحذف والمنع؟
ـــ الثالوث المحرم لا يزال موجوداً، لكن الرقابة أصبحت أكثر ذاتية اليوم، وهو ما قد يشكل خطراً أكبر على الحرية الأدبية.

كيف عشت الحرب الأخيرة على لبنان؟ هل حرّك فيك الواقع التراجيدي في الجنوب وأنت ابن مدينة صور دوافع الكتابة؟ وما هو دور المثقف الجنوبي اليوم؟
ـــ تتملكني مشاعر متضاربة تجاه الحرب الأخيرة على لبنان. من جهة، أشعر بزهو كبير أمام الصمود الأسطوري الذي أبداه المقاتلون الشجعان، خصوصاً في القرى الأمامية. إنه جانب مشرق من تاريخ لبنان وجبل عامل، يبعث على الفخر، لنا وللأجيال المقبلة، يماثل في عظمته صمود جبل عامل أمام البابليين والآشوريين، ومقاومة مدينة صور لجحافل الإسكندر. لكن، من جهة أخرى، غمرني حزن عميق وأنا أتابع، عاجزاً عن فعل أي شيء، آلة الشر الإسرائيلية التي تدمر المباني وتسحق القرى. كذلك استولى عليّ الغضب من المسؤولين، لا سيما من أولئك المحسوبين على أهل الجنوب، لتقصيرهم مع النازحين، وتركهم عرضة للمعاناة. دور المثقف الجنوبي أن يبقى حراً في فكره وموقفه، وأن يعبّر عن رؤاه الصادقة، خصوصاً تلك التي لا يرغب الفريق السياسي المسيطر أو جمهوره في سماعها. يجب أن ينبع كلامه من قناعة فكرية خالصة، بعيدة عن أي طموح شخصي أو مصلحة آنية، عليه أن يتحلّى بالنزاهة الفكرية، فلا يتجاهل تضحيات فريق سياسي يعارضه، وفي الوقت نفسه لا يسمح لتلك التضحيات بأن تصبح وسيلة لإسكاته أو دافعاً للقبول بما لا يجوز القبول به.

هل في رأيك كُتبت رواية عن تاريخ مدينة صور؟ ولماذا يُهمل الجنوبيون كتابة تاريخهم ولو عن طريق الأدب؟
ــــ تحضرني رواية «حصار صور» لألكسندر نجار، وكذلك أعمال صخر عرب، ابن المدينة وكاتب العدل فيها، الذي وثق أدبياً عادات الناس وتقاليدهم في صور عبر حقب زمنية مختلفة. يمكن القول إن تاريخ جبل عامل لا يزال مهملاً أدبياً، رغم غناه وتنوعه. هذا الجبل، الذي لا يقلّ ثراءً عن جبل لبنان الذي ألهم عشرات الروايات الأدبية، أصبح بعضها جزءاً من الأدب العالمي مثل «صخرة طانيوس» لأمين معلوف.
لعل إهمال كتابة تاريخ الجنوب أدبياً مرده اعتقاد الروائيين أن هذا النوع من الأدب لا يحظى بشعبية كافية بين القراء، وربما بين الناشرين. كذلك هناك تقصير عند الفريق السياسي الممثل لجبل عامل. رغم الإمكانات المادية التي امتلكها، ووجوده الطويل في وزارة الثقافة، لم نرَ دعماً أو رعاية حقيقية لمبادرات أدبية تخدم هذا التوجه، علماً أن «الحكايات التي لا نكتبها تصبح ملكاً لأعدائنا»، كما يقول إبراهيم نصر الله.

هل من عمل قادم؟ وكلمة أخيرة للقراء؟
ـــ قبل اندلاع الحرب الأخيرة، كنت مشغولًا بكتابة نص عن جنوب السودان، حيث أقيم. الحرب الأخيرة أيقظت في داخلي رغبة في الكتابة عن جبل عامل، فوجدتني منشغلاً بالجنوبيْن؛ جنوب لبنان وجنوب السودان.
ممتن للقراء الذين غمروني برسائلهم التي تعبّر عن إعجابهم برواياتي، خصوصاً برواية «ميكروفون كاتم صوت». كذلك أقدر المراجعات التي ينشرونها على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تسهم في إبقاء الحوار الأدبي حيّاً ومثمراً، ولا يفوتني أن أشكر نوادي القراءة التي تستضيفني، سواء عبر الإنترنت أو في مراكزها.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي