سركون بولص ووديع سعادة: دفاعً عن الصداقة والشعر والأحلام

سركون بولص ووديع سعادة: دفاعً عن الصداقة والشعر والأحلام

هي رسائل وقصائد توثّق لمرحلة أثيرة من الحياة «الشعرية» لشاعرين من أيقونات الحداثة الشعرية في العالم العربي التي جمعتها أخيراً «دار نلسن» البيروتية في كتاب بعنوان «رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة»: على الضفة الأولى الشاعر العراقي سركون بولص (1944-2007) الذي كانت حياته بمنزلة قصيدة طويلة مقطعة الأوصال بالهجرات والمنافي والنكبات التي وصفها في إحدى قصائده «كرسي جدي ما زال يهتز على أسوار أوروك/ تحته يعبر النهر/ يتقلّب فيه الأحياء والموتى»، وعلى الضفة الأخرى الشاعر اللبناني وديع سعادة صاحب «ليس للمساء أخوة» التي قلّما نجد عنواناً في الشعر العربي الحديث ما ينافسها في تعبيرها عن الرماد المشتعل في روح الشاعر الذي انكسرت في يده زجاجة العالم: إنها محاولة لوصل الضفتين بالكلمات التي تمثّل خط الدفاع الأخير عن الشعر والأحلام والصداقة في زمن الزيف والتسليع، إذ يحمل الشاعر الفانوس في ليل الذئاب، ويقتحم الدرع المميت ليبث قبساً من دفء الشعر في الأرواح الهائمة.
ذلك أنّ هذه الرسائل والقصائد المتبادلة، كما يقول الناشر والشاعر سليمان بختي، «تعيدنا من جديد إلى خفق
الأجنحة التي فقدناها، إلى زمن أدب الترسل حيث كانت الكلمة فيه تُقتبس في الوجدان والورق والكتاب وتُضيء وتتوهج أكثر بكثير من الضوء الناحل على شاشة الأثير
ويباس الأزمنة».

1- رسالة أولى من سركون إلى وديع

1971/3/27

سان فرنسيسكو

أخي وديع،
لم أنتظر الليل، بل تقدمت نحوه وأنا أعرف عدوي وبلا درع أو شهادة أو تردّد. ولكنني حين دخلت كثافة العروة كانت يداي ترتجفان وكان عناقي حلماً كهربائياً يعبر على المحيط. من حين إلى حين، نشوة المتاهة وقرابة يدين تظهران من بعيد. ومن حين إلى حين، وجهي المعلق في مرآة محاكمة. وأنا دائماً قاضي هذا العالم. أريد أن أتكلم عن أصدقائي، لا بل إليهم، ولكنني أجدهم في صحراء أخرى. أحاول أن أركّز نظري لأرى الملامح، ولكنها لا تستطيع أن تقتل قوانين البُعد. القانون الوحيد الذي قتلته هو قانون الزمان، ولكنّ الفضاء ما زال عدواً. إنني الآن في المركز والأيام تدور من حولي ككواكب نارية من الاحتمالات والصبر والمغامرة. وبعد ذلك هذه هي القاعدة: الأيام ليست سوى أيام.
هناك أيضاً كالمنفيّ، كما يبدو لي. لا تكن. أقول لك بكل صوتي: لا تكن. اخرُج من هذه الطبقة الكثيفة من الجلد التي بُنيت حولك من دون أن تعرف: اخرُج. لا تكن مثقفاً يجمع أقنعة ويقرأ المشهورين، ويفكر بنماذج كأنسي الحاج أو لست أعرف مَن أو كامو أو بودلير أو الله أو بوذا أو الشيطان: ولا تكن حتى أنت! وابصق على المثقف الغبي الذي يحاضرك عن «معرفة النفس» والبحث عن الله وباقي الخرق الثقافية الأخرى. هل فكرت لحظة بأن من المضحك أن «نكون» شيئاً؟ إننا لا نكون شيئاً أو أحداً. لأننا هذا الشيء، هذا الأحد. ولأننا كل شيء وكل أحد، من قبل، أعتقد أنك ستفهمني يا وديع لأنني أعرف أن لك عقلية نظيفة وأن دماغك لم يُغسل بعد بالرايات الثقافية الشائعة هناك الآن. إنّ ما يجعلني أقول كلّ هذا هو غضبي الذي لا أستطيع أن أقاومه حتى هنا حين أفكر بجميع الأفكار الخاطئة التي تتسرب في وطننا وبين مثقفينا عن الفكر الأوروبي وعن الثقافة الأوروبية، وذلك عن طريق مجموعة معدودة من الكتّاب المسيطرين على المجلات والذين ليس لهم حق في ذلك. أما إذا كنت مخطئاً. فقل ذلك في وجهي ومباشرة.

ولكن من المضحك أن أبذّر هذه الصفحة كلها في الكلام على «الثقافة» الحلم الذي يتغذى عليه تلاميذ الجامعة ذوو النظارات الطبية والشعراء الذين يعالجون «مسائل العصر» بجبين مقطّب. الشيء الوحيد الذي يستحق المعالجة هو أن تفتح فمك فجأة وأنت في الشارع ومن حولك طنين الخلية الإنسانية وتقذف من أحشائك ذلك البركان الذي هو أنت. وبعد ذلك تستطيع أن تقف لمدة نصف ساعة مراقباً بدهشة أناك المحترقة وهي تتسلق أكتاف البشر وتدخل أنوفهم الضائعة. ربما كنت قد خطوت كثيراً في الليل، ولكن ذلك هو بالضبط ومن دون لف أو دوران، واجب الكاتب: فإنك لم تولد ولن تولد في نهار العالم بمجرد أن تنتظر واقفاً. بل إن الليل هو الذي يخفي نهارنا الحقيقي. وعلينا أن نخترق هذا الدرع المميت؛ ثقب أو ثقبان ينبثق منهما الضوء ونعرف بيقين أن النهار هناك، أنه هناك! هذا ما حدث لي، ويمكنني القول إنني قد رأيت عدة ثقوب في ذلك الدرع وعلى النور المتسرب منها أحيا الآن.
ساعَدَ الشعرُ على إنقاذي كثيراً. منذ أن وطأت هذه الأرض الأجنبية والشعر يلتهب في باطني ليوازن بين البرد المسموم في الخارج واليقظة العنيفة في الداخل. أحياناً يدخل البرد رغم كل شيء، كما يحدث في قرية ما في شبطين مثلاً حين يحاول فلاح ذو عائلة من الأطفال أن يغلق النوافذ جيداً في وجه عاصفة من الثلج، وقبل أن ينجح يدخل بعض البرد، ولكنه ينجح دائماً، على أنني حافظت على تلك العائلة من الأطفال التي تعيش فيّ. وسأفعل دائماً. وطوال هذه المدة أيضاً، لم أتوقف عن الكتابة. أحياناً فعلت، ولكنني لم أتوقف عن الكتابة في داخلي لحظة واحدة.
وكل ما هناك، إنني فعلت ما يجب أن يفعله كل كاتب حقيقي: القدرة على الصمت. قريباً جداً سأبعث إلى لبنان بكتاب ليُنشر. لدي الآن كتب عدة حاضرة للنشر. وأعمل على رواية اسمها «صحراء العالم» وهي كل ما أعيش من أجله الآن، لأنها ستكون معادلاً كاملاً لحياتي الداخلية. ولا يمكنني أن أقول لك أي شيء عنها. كما أنني أعددت كتاباً آخر بأسلوب ليس شعراً أو قصةً أو أي شيء، بل هو كل هذه العناصر التي تقف في مواجهتنا من الداخل والخارج، أو الوجود في أشعة نظرة واحدة. والكتاب الذي أعدّه منذ مدة طويلة وأقرأ من أجله كل يوم، منذ سنتين، هو دراسة في الرواية الحديثة وأعني الحديثة! سأعطيك فكرة:
عناوين بعض الفصول:
هیرمان هيسه: العين الثالثة.
سيزار بافيزي: الجدار الخامس للسجن.
لوكليزيو: هالة حول العالم/ الرواية الكوسمولوجية.
کورتازار: تركيب المتاهة.
بيكيت: جلود العزلة السبعة.
وقد قرأت كل ما يمكن عن مواضيع الدراسة، إضافة إلى التأليف الأصلية. وأخيراً، مجموعة جديدة من القصص والآن لنتحدث عن شيء آخر.
جان دمو هناك، وهو في دير! لا أستغرب ذلك من جان. ولكن يا عزيزي حاول بشدة أن تتصل به وقل له أن يكتب لي وأعطِه عنواني.
أحياناً هنا، أكلّم جان وكأنه معي حين أرى شيئاً أو شخصاً معيناً أعرف أننا كنا سنعلّق عليه ونسبره حتى المركز. في كثير من الأحيان وحين أكون يائساً، مجرد محاورة من هذا النوع تعيـدنـي إلـى حالتي السعيدة، وأضحك عالياً في الشوارع من دون أن أستطيع السيطرة على نفسي. إن ما بيني وبين جان نادر وخالد، ويقف ما وراء جلد العلاقات وجدار البشرية. أعرف بعمق أننا سنلتقي. لذلك، دعه يكتب لي وبعد ذلك ربما أمكن أن ندبر طريقة لسفره إلى هنا، وسأفعل كل ما أستطيع.
تحياتي إلى والدتك. وإلى أخيك وزوجته اللطيفة. وقل لها أن تقرأ فألي وأخبرني بالنتيجة.
أخوك،
سركون بولص

2- رسالة ثانية من سركون إلى وديع

1971/5/16

سان فرنسيسكو
أخي وديع
أجلس أخيراً لأكتب إليك، أخيراً، بعد أن عشت مزيجاً من اليوم والأيام قذفته على الورق في قصائد لا أعرف كم عددها. فأنا أكتب الآن كرجل أنذروه بالساعة الأخيرة. في حمى الارتعاد والفرح الغامض: قصائد، قصائد! وغداً واليوم وبالأمس، قصائد! كل ما أفعله كما يظهر، لا يملك الآن ذلك الرنين الحقيقي أو الحرارة الإلهية، إلا عندما تخرج من أطراف أصابعي بسهولة، قصيدة تجعلني أستحق يومي. وعن طريق معجزة لم يرها أحد، ليس كل شيء في هذه المدينة فجأة، جلد قصيدة فأينما أذهب، كل شيء أنظر إليه، وحتى الأيدي التي تصافحني تترك، وبغموض، آثار قصيدة في يدي. كافٍ أن أجلس في مقهى وكافٍ أن أنظر إلى السماء المطعونة بناطحات السحب، أو أيضاً أن أرى فتاة تكلمني من داخل قلعة أفكارها وبعد ذلك تعطيني جسدها الجاهل. وكذلك، اسمع: أعتقد أنني قد سبحت إلى أعماق شعرية من السلام، من اليقين بحيث إنني أهملت حياتي الماضية: لم أتركها، فهي هناك شديدة السطوع أكثر من أي وقت مضى. لم أحاول أن أفكر بها، فأنا مع الأسف أقف وراء أسوار التحليل الآخر، بل أهملتها، كفرشاة حلاقة في مغسلة عقلي، والانفعال من أجل عزلة، قضية مغامرة... والطموح، جزء من الفضائل الحيوانية. كل ما أستطيع أن أخبرك به یا ودیع یا صديقي هو نشوءٌ واقف. مدينة عربية في الظُهر، مسجد ينظر في عينيك، وامرأة تزوجت حديثاً تفكر بالأطفال. ماذا؟
ليس هناك تفسير لأي شيء. استحقّ قصيدتك وبذلك تهشِّم زجاجة التاريخ التي تضعها قوى عمياء بينك وبين العالم. هي تقطع طريق الشعر من دون بوصلة ولا سياسة شخصية. فأنت، بسهولة شديدة، رجل عاش وجوده الحقيقي واستحق كل شيء. إننا ندين لأنفسنا أولاً أن نجسد مثالاً على الصدق.
وأنا أتكلم عن الشاعر، أو الإنسان في حالة الشعر: الحالة الوحيدة الحقيقية. ليس هناك اختبار بين أشياء أو بين أفكار، كما يفعل أصدقاؤنا الطيبون جداً هناك: فأنا لم أر أي سوق، وبالتالي ليس هناك مزاد كما يعتقدون أنك تختار فكرتك وأنت هناك، بينما مقنعاً نفسك بأنك «أنت» الذي يختار. أن «التيار» أو «الجماعة السائدة»، أو الظرف أو رغبة أن تكون داعية، هي التي تدفعك في الحقيقة، بعيداً، بعيداً! وأبعد أيضاً عن هذه الخرق، ولنفصل عباءة جديدة.
ربما تساءلت عن أسلحتي، أو أيقونتي، أو النسغ الذي ألعقُ منه. إيماني حين أكتب، وأقول لك ببساطة، إنه كل شيء. ولكن حين تحب.
بنار دينية، بعين صوفية ثالثة: حين تحب.
كل شيء هو مجموعة من الأسئلة (هذا ما نراه) ولكننا أجبنا عنها بسهولة من قبل (هذا ما لا نراه كل شيء يساوي هذه الكلمة: أنت. ضع على التاء فتحةً أو كسرة، كيفما شئت. إن العالم مفتاح وكنا نعتقد أنه قفل.
عزيزي وديع:
(...)
اليوم الأحد، وقد قضيت طوال اليوم أكتب، سأذهب بعد ساعة إلى «الساحل الشمالي» حيث سيرك العالم الذي لا يكفّ: برودواي والبلدة الصينية المليئة بالهيبيين، بالنساء وتجار المخدرات والموت، وباليوغا، والراقصين، والشعراء ومحال العريّ الكامل. أذهب لأغتسل في وسط النهر البشري وأشارك في معجزة العالم.
إلى أن أقرأ رسالتك، المحب
سركون بولص

3- وديع سعادة يكتب قصيدة


إلى سركون بولص
محاولة للوصول إلى بيروت من بيروت

هل كان عليّ أن أخرج اليوم لأمسّد
بأصابعي الصغيرة قذيفة الأعداء
أن أذهب في طريق يذوب إسفلتها مستعيداً
عمّال منجمه الذين تناثروا
بديناميت
مستعيداً عميانه، وبوهميّين قدامى
يراقبون انسلاخ الأرض عن جلدها
كقرصان محروق
هل كان عليّ أن أخرج لأذهب إليك
بعد موت آخر أرساغي، وقدمي، ويديّ
المتعانقتين
كعريسين أُطلِق عليهما الرصاص قبل المساء
بعد أن جُرّدتُ من أسلحتي جميعها في وادٍ
يلعب فيه المغول،
وأذهب إليك الآن، أحاول أن أذهب إليكِ
بما بقي لي:
فكٌّ مدروزة بالرصاص
نُصبت علامةً للجنود في وقت فراغهم
رأس يوضع عادة فوق كتفين كفلينـة تقـاوم
حوتاً في رأس صنارة
ذراع لا تستطيع التلويح
قرية بعيدة، بعيدة جداً
انبثقَت ذات يوم من دخان السطوح
وشجرة
تزينها ابتسامات الغربان.
أحاول أن أذهب إليك
وذلك لا يستدعي سوى رحلة بسيطة:
نزهة رصاصة
بين التباريس وشارع الحمراء
لكن ضفّتيك مفصولتان ببحر لامع من
المتفجرات
وحراس بابك يركلونني، فأتدحرج
أتدحرج
بلا قرار.

4- وديع سعادة في رثاء سركون بولص

باخرة ضائعة بين الأحشاء
لا وصول. كل مدينة هي مدينة «أين». ترحال في الجغرافيا، ترحال في الذات، ترحال في الحياة، ترحال في الشعر ... فما يهـم هـو الرحلـة ولـيـس الوصول.
«حفيف ثوب عابر»، «قطار من النبضات»، «سافر حتى يتصاعد الدخان من البوصلة»... كلمات لسركون بولص، أستعيرها كي أصف الشاعر، كي أصف سركون بولص.
شاعر اللامكان سركون بولص، الذي عبر أمكنة كثيرة (العراق، لبنان، الولايات المتحدة، بريطانيا، ألمانيا...)، لم يكن يعبر في الجغرافيا. كان يعبر في ذاته، عمودياً في الأعماق، وفي الغور هناك يحاول هدم الحدود بين الحلم والواقع.
كانت اللغة هي وطنه الافتراضي الوحيد، فحفر فيها عميقاً علّه يجد نفسه في وطن... لكن، هل للشعراء وطن، حتى في اللغة؟
يُجمع الشعراء والنقّاد العرب على أنّ سركون، وقلة من مجايليه، نقلوا الشعر العربي من مرحلة التأسيس للحداثة، والتنظير للحداثة، إلى الحداثة كتابة ومفهوماً، وأنهم جعلوا القصيدة توأماً للحياة بنقلها من الرمز والتجريد إلى المحسوس والواقع... وكان سركون أحد أبرز هؤلاء الذين عاشوا حياتهم شعراً لا كتابة فقط.
يُجمع الشعراء والنقاد العرب على أن سركون بولص صوت شديد الخصوصية في الشعر العربي ومن أبرز شعراء القصيدة الجديدة. أصغر تفاصيل الحياة اليومية تتحول في قصيدته إلى شعر متوهّج.
يختار جملته بإتقان، مزوّجاً الشـعـر بـالفكر بالتراث بالتفاصيل اليومية. لغته نثرية بامتياز لكنها تحمل طاقة شعرية كبيرة لغة مسكونة بالقلق الوجودي، بالتجربة الروحية، متراصة كبناء، لكنها في الوقت نفسه مشرّعة على الإيحاء والرؤى.
الإنسان ترحال دائم، ترحال في ذاته على الأخص، وكذا الشعر. وفي هذا الترحال كان سركون يبحث في ذاته عن مكان، عن خلاص، وعن عشبة الأبدية ربما، مثل سلفه غلغامش.
إلا أنّ الأمكنة كلها، في الذات وخارج الذات هي منافٍ. ويستمر الشاعر يرحل فيها، من منفى إلى منفى، أعزل ومعزولاً.
عقد سركون بولص صداقة مع آلام شارل بودلير. بودلير، الذي أبحر في باخرة نحو آسيا حاملاً آلامه وكادت الباخرة تغرق به وبمن فيها، وصلت آلامه إلى سركون باكراً (من أوائل قصائد سركون قصيدة بعنوان «آلام بودلير وصلت»)، إلا أنّ باخرة سركون لم تكن في البحر بل في أحشائه: «هناك باخرة ضائعة ترعى بين أحشائي».
أعتقد أنّ شعر سركون كله مسكون بهذه الباخرة الضائعة بين الأحشاء. وأعتقد أن هذه الباخرة تبحر بين أحشاء كل شاعر، ولا ميناء لها.
العلن يكمن في السر. وما يكتبه الشاعر، وما كتبه سركون، من تفاصيل حياة يومية، إنما كي يقول السرّ وليس العلن. وبحثاً عن هذا السرّ تبقى باخرة الأحشاء في سفر دائم. فكل ميناء هو ميناء «أين»، وكل بحر هو بحر «أين» أيضاً.
لكن، مهما أبحر الشاعر في باخرة أحشائه، مهما ابتعد، يقول سركون: «سيصل إلى قلبه في النهاية/ حيث يتدلّى الجرح من النوافذ/ حيث الجرح يحترم الرصاصة».
وديع سعادة


حساسيّة تفتّحت على ضفاف بحيرة الحبانية

سركون بولص شاعر عراقي، وُلد على ضفاف بحيرة الحبانية حيث تفتحت حساسيته الشعرية على أسماكها وهي تحاول اللحاق بالموج، وحيث كان أبوه يمارس صناعة العقاقير البدائيّة ويشفي القرويّين الذين كانوا يؤمنون به كطبيب شعبي، وكان الطفل يحمل له الفانوس في ليالي الشتاء عندما يقوم بزياراته لبيوت الفقراء تلك. حين انتقلت العائلة إلى كركوك، شرع الفتى بكتابة الشعر وشكّل مع فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجان دمو وصلاح فائق ما سمّي بـ«جماعة كركوك» الشعرية. راسَل يوسف الخال في بيروت الذي نشر له بعضاً من قصائده في مجلة «شعر». عام 1966 توجّه إلى بيروت سيراً على الأقدام عبر الصحراء، وقصد مكتبة الجامعة الأميركية طالباً أعمال ألان غنسبرغ وجاك كيرواك وآخرين وأعدّ ملفّاً عنهم لمجلة «شعر». هاجر عام 1969 إلى الولايات المتحدة وفي سان فرانسيسكو التقى جماعة «بيتنيكس» ومنهم ألان غنسبرغ وغريغوري كورسو وبوب كوفمان وغيرهم، وعقد صداقات معهم. رفد سركون بولص المكتبة العربية بترجمات مهمة ورصينة نشرها في «شعر» و«مواقف» و«الكرمل». أمضى السنوات الأخيرة من عمره متنقلاً بين أميركا وأوروبا، وخصوصاً ألمانيا حيث حصل على منح عدة للتفرّغ الأدبي. توفي في برلين عام 2007 بعد صراع مرير مع مرض السرطان تاركاً خلفه مؤلفات عدة نشرتها «منشورات الجمل» التي خصّصت جائزة شعرية سنوية باسمه، واهتم صديقه الناشر والشاعر خالد المعالي بنشر تراثه كاملاً، من «الوصول إلى مدينة أين» (1985)، و«الحياة قرب الأكروبول» (1988)، و«الأول والتالي» (1992) و«حامل الفانوس في ليل الذئاب» (1996) و«إذا كنت نائماً في مركب نوح» (1998) و«عظمة أخرى لكلب القبيلة» (2008)، وليس انتهاء بترجماته الشعرية لأتيل عدنان «هناك في ضياء وظلمة النفس والآخر» (2000)، ومختارات عن الألمانية بعنوان «رقائم لروح الكون»، إضافة إلى ترجمات لجبران وهوشي منه وسيرة ذاتية بالألمانية بعنوان «شهود على الضفاف» وديوان بالإنكليزية بعنوان «شاحذ السكاكين» مع مقدمة للشاعر أدونيس، عن مجلة «بانيبال».


طفولة مطبوعة بفجيعة رهيبة

شاعر لبناني، وُلد في قرية شبطين في البترون في عام 1948. طبعت طفولة الفتى المرهف فجيعة رؤية والده محترقاً وهو لمّا يتعدى الرابعة عشرة من العمر، وهو ما فجّر وعيه الشعري ووشّحه باكراً بالرماد المشتعل. في لحظة المأساة تلك التي توّجت نشوء وديع سعادة في وسط فلاحي كادح بين أشجار الزيتون في قريته النائية، كان المعنى قد اكتمل في روح الشاعر، واستمر هذا المعنى مشعاً في مساره الطويل في الحياة والشعر، كالزيت الذي يرشح من الأيقونة في كنيسة شبطين. أصدر سعادة مجموعته الشعرية الأولى «ليس للمساء إخوة» بخط اليد في عام 1968 ووزّعها على أصدقائه واستهلّها بالجملة الآتية: «في هذه القرية التي تستيقظ/ لتشرب المطر/ انكسرت في يدي زجاجة العالم»، قبل أن يصدر الكتاب مطبوعاً في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. تتالت من بعدها المجموعات الشعرية لسعادة مثل «الحياة الحياة» (1983)، و«رجُل في هواء مستعمل يقعد ويفكر بالحيوانات» (1985)، و«مقعد راكب غادر الباص» (1987)، و«بسبب غيمة على الأرجح» (1992)، و«محاولة وصل ضفتين بصوت» (1997) وغيرها من الأعمال التي صدرت في أعماله الكاملة عن دار النهضة العربية (2008) متبوعةً بـ «من أخذ النظرة التي تركتها خلف الباب؟» (2011) و«قل للعابر أن يعود نسي ظله هنا» (2012) عن «دار نلسن». حاز وديع سعادة عام 2011 جائزة «ماكس جاكوب» عن الأنطولوجيا التي أعدها له ونقلها للفرنسية المترجم اللبناني أنطوان جوكي، وتوّج عام 2018 بجائزة «الأركانة» العالمية عن «بيت الشعر» في المغرب. كما جرى تكريمه في مدينة سيدني الأسترالية في أكثر من مناسبة، وتُرجمت أعماله إلى الإسبانية والألمانية والإيطالية والإنكليزية.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي